في زمن كثرت فيه الانشغالات وضعفت فيه الروابط الاجتماعية، تبقى فضيلة التناصح من القيم التي دعا إليها الإسلام وأكد عليها القرآن الكريم والسنة النبوية، باعتبارها ركيزة من ركائز بناء المجتمع المؤمن، الذي يقوم على التواصي بالحق والخير.
الإنسان مخلوق اجتماعي يؤثر ويتأثر
خلق الله الإنسان اجتماعيًا بطبعه، يتأثر بما يسمع ويرى، ويؤثر في من حوله بما يقول ويفعل.
ومن مظاهر هذه الطبيعة أن تكون النصيحة المتبادلة أساس العلاقة بين الناس، فهي تبصر الغافل، وتوجّه الحائر، وتحذّر من الخطأ، وتعين على الصواب.
قال تعالى:
“ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً”
أي أن التناصح سنة كونية جعلها الله وسيلة لتكامل البشر وإصلاح أحوالهم.
جوهر رسالة الأنبياء: نصح وتوجيه وتحذير
كل رسالات الأنبياء والرسل كانت قائمة على النصيحة الخالصة لله ولعباده، كما قال تعالى على لسان سيدنا هود عليه السلام:
“إني لكم ناصح أمين”
وكذلك قال نوح عليه السلام لقومه:
“وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون”.
ومن هنا يتضح أن جوهر الرسالة السماوية هو النصح والإرشاد، توجيهًا إلى عبادة الله وتحذيرًا من معصيته.
“الدين النصيحة”.. حديث يلخّص المنهج الإسلامي
قال النبي ﷺ في الحديث الشريف:
“الدين النصيحة”
فالنبي قصر جوهر الدين في هذه الكلمة الجامعة، مؤكّدًا أن الإيمان الحقيقي لا ينفصل عن النصح للناس، إذ لا يكون الدين إلا في النصيحة، ولا تظهر حقيقته إلا بها.
ويقول العلماء إن هذا الأسلوب في الحديث يسمى أسلوب القصر، وهو من أبلغ صور البيان، إذ يجعل النصيحة محورًا لكل سلوك إيماني صحيح.
حقوق المسلم على أخيه المسلم
بيّن النبي ﷺ أن للمسلم على أخيه المسلم ستة حقوق أساسية، منها قوله:
“إذا استنصحك فانصح له”
أي إذا طلب منك النصيحة وجب عليك أن تقدمها له بصدق وإخلاص، فالنصيحة ليست تفضلاً أو خيارًا، بل واجب ديني ومسؤولية شرعية يُسأل عنها العبد أمام الله تعالى.
ومن الحقوق الأخرى التي وردت في الحديث:
السلام، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، واتباع الجنازة — وكلها مواقف تُظهر روح الأخوة والتراحم بين المسلمين.
النصيحة واجبة حتى دون طلبها
لا تقتصر النصيحة على من طلبها، بل تمتد لتشمل من يحتاجها ولو لم يسأل.
فإذا علم المسلم بضرر قد يصيب أخاه، أو خير قد يفوته، وجب عليه أن يبصره ويحذّره، امتثالاً لقوله تعالى:
“وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”.
فالإسلام لا يعرف مقولة “ما ليش دعوة”، لأن المؤمن شريك في الخير ومسؤول في النصح، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بحكمة ورحمة.
موقف سلمان الفارسي وأبي الدرداء.. نموذج عملي للنصيحة
من أروع المواقف التي تُجسد معنى النصيحة ما رُوي عن سلمان الفارسي وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
فقد لاحظ سلمان أن أبا الدرداء يكثر من الصيام والقيام ويهمل حق بدنه وأهله، فقال له كلمته المشهورة:
“إن لربك عليك حقًا، ولجسدك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه.”
فلما أخبر أبو الدرداء النبي ﷺ بما قاله سلمان، قال النبي ﷺ:
“صدق سلمان.”
وبهذا أقر النبي نصيحته، وجعلها سنة تقريرية تُحتذى في توازن المسلم بين الدين والدنيا.
قبول النصيحة.. خلق الأنبياء والعقلاء
إذا كانت النصيحة واجبة على المسلم، فإن قبولها أوجب.
فمن نصحك فقد أحب لك الخير، ومن حذّرك فقد خاف عليك الشر.
قال العلماء: “من صدّ عن النصيحة فقد صدّ عن الحق”.
لذا، فقبول النصح علامة تواضع وإيمان، وردّه تعالٍ يورث الندم.
رسالة ختامية: الناس بالناس ما دام الوفاء بينهم
يبقى التناصح بين الناس من مظاهر الوفاء الإنساني والاجتماعي، ومن علامات المجتمع الراقي.
فكما قال أحد الحكماء: “الناس بالناس ما دام الوفاء بهم.”
والنصح دليل محبة، لا يقدمه إلا مخلص، ولا يقبله إلا من شرح الله صدره للحق.
لمشاهدة الحلقة كاملة
