53
وقد فتحت الشهادة أمامه أبواب المستقبل على مصراعيها وتوالت عليه الوظائف المرموقة، وذلك قبل توليته مشيخة الأزهر، فبعد تخرجه مباشرة عين مدرسًا بمعهد الإسكندرية الديني وفي سنة 1917م اختير قاضيًا شرعيًا.
ولقد نشط الإمام نشاطًا كبيرًا ظهرت آثاره في ارتفاع ميزانية الأزهر في عهده إلى أكثر من مليون جنيه، واستطاع بحكمته ولباقته أن يقضي على ما ظهر في الأزهر من عصبيات، وميولٍ حزبيةٍ عنيفةٍ فأحسَّ الجميع تحت قيادته الرشيدة أنهم جميعًا أبناء جامعة واحدة، وأنهم تربطهم صلاتٌ أقوى من صلات الدم، فأصبحوا كالجسد الواحد تحت راية (العلم رحمٌ بين أهله)، ثم عمل على تقوية ما بين الأزهر والعالم الإسلامي من صلاتٍ علميةٍ وروحيةٍ وثيقةٍ، فأوفد البعوث العلمية المختلفة إلى ربوع العالم الإسلامي، تنشر تعاليم الإسلام، وتبث علومه وحضارته، وتدعو إلى الله على بصيرة، وتقرب ما بين الطوائف الإسلامية، وتمحو أسباب الفرقة والخلاف، وقد حاول إعادة الأزهر إلى سالف عصره وأيامه التليدة، أيام علمائه الكبار أمثال الشيوخ العيني والعسقلاني والسخاوي والمقريزي وابن خلدون وغيرهم، ممن كانت تُشَدُّ إليهم الرحال، ويتوافد على حلقاتهم العلمية العلماء والطلاب.
ومهما تحدثنا عن فضائل الإمام الشيخ محمد الشناوي فلن نوفيه حقه، ونذكر أنه كانت له مواقف دينية ووطنية تدل على أنه قد وقف قلمه ولسانه على نصرة دينه ووطنه، ومنها موقفه في ثورة 1919م عندما ثار المصريون ضد الاحتلال الانجليزي مطالبين بجلائه عن أرض مصر فشارك في الكفاح، وكان مضرب المثل في الصلابة والجرأة، متأثرًا في ذلك بشيوخه وأساتذته الذين درس وتلقى العلم على أيديهم، أمثال الإمام أبو الفضل الجيزاوي والإمام محمد عبده الذي سار على نهجه في الإصلاح، أما تلاميذه فهم كثيرون جدًا على امتداد حياته منذ أن كان مدرسا ثم شغله وظائف كثيرة ومتنوعة، وتقلد مناصب مختلفة، وكان له في كل واحدة مريدون ينهجون نهجه، ويتبعون مسلكه، وينسجون على منواله، ولهذا كان تراثه العلمي ومصنفاته قليلة جدَّا لم يتعرض لها المؤرخون بالذكر، وكان فضيلة الإمام الشناوي كريم الخلق، يتمتع بالجلال والهيبة، وكان ذا شخصية قوية مع تقوى وورع فيمسك بالحق، ويضحي في سبيله بكل ما يملك، محبوبًا من الجميع، فكلهم يجلونه ويحترمونه، وكان -إلى جانب هذا كله- عالمًا كبيرًا واسع الثقافة غزير العلم، بمثابة مرجعٍ كبيرٍ يرجع إليه الجميع فيما أُشكِلَ عليهم من دقائق العلوم.
والظاهر أن الإمام الشيخ الشناوي كان من الذين يبنون الرجال، ويدعون علمهم صدور تلاميذهم، ويتركون لهم مهمة إذاعته وتدوينه، شأنه في هذا شأن الإمام أبي حنيفة، فإنه لم يترك في الفقه كتبا مكتوبة، وإنما ترك لتلاميذه هذه المهمة فأدُّوها على أحسن وجهٍ وأكملِ صورة.
ظلَّ الإمام الجليل محمد مأمون الشناوي يواصل عمله، ويهب وقته كله حتى دهمه المرض الذي ألزمه الفراش، ولكن روحه المعنوية وإيمانه القوي وثقته بالله حفزته على مقاومة العلة وعاونه الأطباء في العلاج حتى برئ، ولكن قضاء الله نافذٌ، لا رادَّ لحكمه، فقد أصيب بعدها بنوبةٍ قلبيةٍ حادةٍ، تمكَّنَ الأطباء من مقاومتها، إلا أنه أصيب بعدها بالتهاب رئوي استعصى على الأطباء، فلقي ربه في الساعة العاشرة من صباح يوم 21 من ذي القعدة سنة 1369 هـ – 4 سبتمبر 1950م، وشيعت جنازته في اليوم التالي، بعد الصلاة عليه في الجامع الأزهر، في موكبٍ مهيبٍ حافلٍ يليق بمكانته في النفوس، ومحبته في القلوب.
المقالة السابقة