30
في بيت ريفي متواضع وفي قرية (السالمية) من قرى مركز (فوة) التابع لمحافظة كفر الشيخ، ولد محمد عبدالرحمن بيصار في 20/10/1910م، ويقول المؤرخون إن أباه كان من أهل العلم، ونال حب واحترام أهل القرية جميعًا، وقد حاول أن يكون من طلاب العلم بالأزهر، ومن رجاله المرموقين، غير أن الظروف لم تكن في صالحه، فسأل الله سبحانه أن يعوضه عما فاته في ولده محمد، وقد أجاب الله دعاءه وحقق رجاءه، وجعل ابنه هذا إمامًا للإسلام، تعنو له الدنيا، وتخطب ودَّه الأيام،
تولى – رحمه الله- مناصب عديدة، ففي سنة 1955م عُيِّنَ أستاذًا بكلية أصول الدين، ولقد رشحته مواهبه وثقافاته وأخلاقه لتولي منصب مدير المركز الثقافي الإسلامي، بواشنطن، فقام بشئون المركز على أعلى مستوى، وجعله مصدر إشعاعٍ يضيء العقول والقلوب، ويجذب إليه الأسماع والأبصار من بين الطوائف الإسلامية المتعددة في أفكارها وجنسياتها، والمنتشرة في أرجاء ولايات أمريكا، بالإضافة إلى العديد من الأفكار والعقائد الأخرى.
في 29/1/1979م، صدر قرارٌ جمهوريٌّ بتعيين الدكتور محمد بيصار شيخًا للأزهر، ولما تقلد منصبه الجديد شمَّر عن ساعد الجد، وراح يسلك كلَّ طريقٍ يرى فيه صلاح الأزهر، ورفع مكانته، وقد استهل عمله بعد توليه المشيخة بتأليف لجنةٍ كبرى لدراسة قانون الأزهر ولائحته التنفيذية، ليستطيع الأزهر الانطلاق في أداء رسالته العالمية، وكان من ما امتاز به الإمام بيصار ولعه الشديد بتقديم المعونة لكل محتاج، والسخاء بما يملك من مال وغيره، بجانب جمعه بين الثقافة الإسلامية العميقة، والغربية العصرية في أحدث نهضاتها، وهو يجيد الإنجليزية والفرنسية، وبهذا استطاع أن يجذب إليه القلوب من شتى أجناس أهل الأرض، إضافة إلى أنه إداريٌّ من الطراز الأول، يحترم القوانين ويطبقها تطبيقًا دقيقًا في أناةٍ ويسر، ويراعي العدالة المطلقة في كل تصرفاته، ويدرك بفطنته الحكمة من سنِّ القوانين، وكأنه هو الذي وضعها، وله جلدٌ كبيرٌ على مواصلة العمل، وموالاة البحث والدراسة في صبر وعزم وإخلاص، فتراه باحثًا ومحاضرًا وخطيبًا في وقت واحد، مع طهارة قلبٍ وصفاء نفسٍ وضمير.. وله بديهية حاضرة تسعفه في حل أعقد المشكلات فيدلي فيها بالرأي السديد، دون إرهاق ذهنٍ، كما أعانته خبرته وتجاربه العلمية العديدة على إدارة أدق النوازع في قلوب المحيطين به، ويعاملهم بما يتسق معهم، وما من دعوة لنصرة الإسلام وبيان صحته إلا وأسرع للإسهام فيها بكل ما يملك.
زار الإمام الدكتور محمد بيصار أكثر بلاد الله، وأفاد من كل مكان حل فيه، واستفاد من كل من التقى معه مهما كانت عقديته. وهو متخصص في الفلسفة الإسلامية، وقد درس جوانب هذه الفلسفة دراسةً علميةً دقيقةً، وتعمق في بحوث وجوه الاختلاف والخلاف بين الفلاسفة وعلماء الكلام والفقهاء والصوفية، وسجل هذه البحوث في كتبه ومحاضراته، وخرج من هذه الدراسات بنتائج هامة لخصها في بحثٍ ممتعٍ، ألقاه في المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية عام 1970م، وكان عنوان البحث “إثبات العقائد الإسلامية بين النصيين والعقليين” وهو بحثٌ جيدٌ وممتعٌ لأهل العقول الواعية.
1. الوجود والخلود في فلسفة ابن رشد
المقالة السابقة