21
هو الإمام الشيخ محمد الأحمدي ابن العلامة الشيخ إبراهيم بن إبراهيم الظواهري، ولد بقرية كفر الظواهري من محافظة الشرقية 1295هـ – 1887م، وقرية الظواهرية أصلها من قبيلة النفيعات التي تسمى الآن النوافعة؛ نسبة إلى نافع بن ثوران من قبيلة طيِّئ، نشأ في أسرة كريمة مشهورة بالصلاح والتقوى، وكان والده من خيرة علماء الأزهر الشريف المتصوفين، وكان جده إبراهيم صوفيًّا معروفًا لدى جميع الطرق الصوفية في مصر والعالم الإسلامي، وأُذيع عنه أنْ شاهد ليلة القدر، فدعا الله فيها أنْ يغفر له ولذريَّته ولكلِّ مَن أكل طعامه، فاستجاب الله دعاءه، وأُذِيع الخبر وانتشر بين الناس، فتهافتوا على بيته، يطلب كلٌّ منهم رغيفًا أو كسرة خبزٍ لينالوا المغفرة، والمطالع لتاريخ قرية الظواهري يتبيَّن له أنها قرية ذات شأنٍ؛ فإليها ينتسب أدباء وعلماء لا حدَّ لكثرتهم من الأطباء العباقرة في الميادين المختلفة، وفي هذه القرية التي تعرف بماضيها عاش الأحمدي الظواهري.
عرف الإنجليز سموَّ فكر الشيخ المراغي ورجاحة عقله وهو في السودان، وأنهم يستطيعون التفاهُم معه عند الحاجة إليه، وعيَّنه الملك فؤاد شيخًا للأزهر، ونتيجةً لأمورٍ لم يرضَ عنها الشيخ المراغي قدَّم استقالته للمرَّة الأولى، وصدر القرار بتعيين الشيخ الأحمدي الظواهري شيخًا للأزهر في 7 جمادى الأولى سنة 1348هـ – 1929م، وقد أفاض المؤرِّخون وغيرهم في الحديث عن الإمام الجليل الشيخ الظواهري، وذِكر مفاخره ومَآثره، ولقد حاولت أنْ أرسم صورةً واضحة لحياته الثريَّة والإنجازات الوثَّابة، ولقد تولَّى الشيخ الظواهري المشيخة والأزهر على مشارف حركة إصلاحية رائدة، ومسرحًا لنهضة علميَّة مشتعلة حماسًا وحميَّة على الأزهر والإسلام، وترقَّب الأزهر خيرًا على يد شيخه الجديد الذي أعلن منهجه الإصلاحي من قبل ذلك، وسجَّله في كتابه “العلم والعلماء”، وهو كتاب قيِّم، وصفه كُتَّاب الإشراق في دائرة المعارف الإسلامية، قال أحدهم: إنَّ روح الإخلاص والصفاء التي تظهر في هذا الكتاب لَتُعَدُّ نادرةً حتى بيننا نحن المسيحيين، فما بالك بالإسلام الذي دبَّ فيه الجمود؟!
إنَّ للشيخ الإمام الظواهري أعمالاً جليلة قبل اعتلائه كرسي المشيخة أوضحت أنَّه كان يتمتَّع بعقليَّة إدارية ناضجة من الطراز الأوَّل، عقلية متفتحة مبتكرة مع علمٍ غزير، ويدلُّ على ذلك عندما تم إنشاء “المعهد العالي” بمعهد طنطا الديني الأزهري حرص المسؤولون على أنْ يحشدوا فيه المواهب الفنية من المدرسين، وما كاد الشيخ الأحمدي يحصل على الشهادة العالمية من الدرجة الأولى حتى رشَّحته مواهبه للتدريس بالقسم العالي بهذا المعهد، فانتدبه شيخ الأزهر للتدريس فيه، مع أنَّه كان صغير السنِّ، ولم تكن لديه خبرة سابقة بالتدريس قبل ذلك، والمعروف أنَّ معهد طنطا يعدُّ من أقدم المعاهد الأزهريَّة بالمحافظات والأقاليم حينئذٍ، وهو يلي الجامع الأزهر في المنزلة، ويمنح طلبته وخرِّيجيه شهادة العالمية، ومن هنا نرى أنَّ انتداب الشاب الأحمدي الظواهري للتدريس بالقسم العالي فيه، وسنُّه لم يتجاوز السابعة والعشرين، وطلبة القسم العالي يكبرونه بكثيرٍ، وكانت مفاجأةً كبرى للطلاب والعلماء على السواء، ولكنَّ الشاب الواثق من علمه ومادَّته، والموهوب في عمله، أجاد وأفاد ولفت الأنظار إليه، واتَّسعت حلقته العلمية، وأقبل عليه الطلاب والدارسون إقبالاً منقطع النظير؛ لأسلوبه الواضح القوي، وفصاحته البالغة في شرح المشكلات العلميَّة، وتذليل الصعاب أمام الطلاب، وتوضيح ما استغلق عليهم فهمه، إضافةً إلى حسن مظهره وبشاشة صورته وحسن هندامه، وكان إلى جانب قيامه بالتدريس يُباشر دعوته الصوفيَّة على نهج الطريقة الشاذلية، وأقبل عليه الجمهور، كما أقبل عليه الطلبة، وبدأ ينتقل بين المدن الكبرى داعيًا إلى الله، ونجحت دعوته واهتدى على يديه الكثيرون، وتركوا المنكرات وشرب الخمر والمخدرات ولعب الميسر، وأقبَلُوا على الطاعات، وكان يصلح بين الناس، وفي هذه الفترة ألَّف كتاب “العلم والعلماء”، يدعو فيه إلى الإصلاح، وينتقد فيه عيوب التدريس وأساليب العلماء، ويقول في هذا: “كانت النفوس وقتها مستعدَّة لفكرة الإصلاح وقبولها؛ فقد كان الشيخ محمد عبده يُجاهد لأجله منذ بعض الزمن فنجح في لفت أنظار أولي الأمر إلى الأزهر، وكان العامل الحقيقي في عرقلة تنظيم الأزهر على برنامج شامل مرجعه سببان: أولهما بغض العلماء وعدم رضاهم عن فكرة الإصلاح، وثانيهما: نفور سياسي من الخديو عباس حاكم مصر وبين محمد عبده، وفي هذا الجو الملبَّد بالغيوم ألَّف الإمام الظواهري كتابه “العلم والعلماء” يسخطُ فيه على أحوال الأزهر ومشايخه ورجاله، وغضب الكثير على الكتاب ومنهم الخديو ما عدا رئيس النُّظَّار “الوزراء” وقتَها؛ فقد أُعجب بالكتاب، واستقبل الشيخ الظواهري في مكتبه قائلاً: “إني عشت حتى رأيت مَن يجهرُ بمثل هذه الآراء البنَّاءة، ولو كان في الأزهر كثيرون مثلك لما كنَّا في حاجة إلى إنشاء دار العلوم، وقال له: أنت شجاع في كتابك، فكن شجاعًا في عملك، ولقد وقف المسؤولون ضدَّه، ونصحه والده بالهدوء، وبشَّره بأنه سيكون شيخًا للأزهر، وبعدها يستطيع فعلَ ما يشاء، والجدير بالذِّكر أنَّ الشيخ الظواهري كان يدرس لطلبة العالمية أمَّهات الكتب؛ مثل مختصر ابن الحاجب في الأصول، والعقائد النسفية في التوحيد، وآداب اللغة العربية؛ للعسكري، ودلائل الإعجاز – بلاغة، والبخاري والنسفي، وكلُّ هذه الأمَّهات كان يدرسها في وقتٍ واحد على طلاب العالمية، وهذا يدلُّ على سعة علمه الغزير. وتقلَّد الإمام الظواهري شياخة معهد طنطا، وحاول إصلاح المناهج ووسائل التدريس بالمعهد، ولم يُوافق المجلس الأعلى على برنامجه الإصلاحي؛ فاعتمد الشيخ على نفسه في التطوير داخل دائرة اختصاصه، كما قام بإنشاء جمعيَّات ولجانٍ كثيرة هدفها الإصلاح وخدمة المجتمع، نشير إلى بعضها:
نقول: لو لم تكن المشاغل الجسام والهموم المتراكمة، والأحداث المتوالية والتيارات السياسية، والأكاذيب الباطلة، التي حدثت في عهد الشيخ الظواهري، هذه الأمور حالت بينه وبين التأليف، ولو تفرَّغ له لأنتج إنتاجًا قيمًا بفِكرِه المنتظم وثقافته الواسعة وذكائه المتوقِّد، وعلى الرغم من ذلك كله فإنَّه ترك لنا ثروةً من مؤلفاته القيمة لا بأس بها، منها ما طُبع، ومنها ما يزال مخطوطًا من ذلك:
وهكذا كان الإمام الظواهري صلبًا فيما يعتقده حقًّا، حريصًا على إقرار النظام وسيادة القانون، ولقد واجه ضغوطًا شرسة من الطوائف الحزبية ومن بعض العلماء؛ فقابل كلَّ هذا بحزمٍ وشدَّة، وكان يرى أنَّ الأزهر لا يتقدَّم إلا في ظل الهدوء والسكينة واحترام القوانين.
المقالة السابقة