88
في مدينة الألف مئذنة، وفي بيتٍ من بيوت العلم والسيادة، وُلِدَ الصبي “حسن مصطفى مأمون” في 12 يونيو 1894م، وكان والده الشيخ مصطفى مأمون من علماء الدِّين المعروفين، وكان إمامًا لمسجد الفتح بقصر عابدين، وهو المسجد الذي يُؤدِّي فيه الصلاة ملك مصر (الملك فؤاد)، وبعده الملك فاروق، وإمام هذا المسجد يُراعَى في اختياره العلم الغزير والخلق الكريم، والأدب العظيم، وقد ورث الابن عن ابيه هذه الصفات، ونمَّاها بالدراسات العلمية والتجارب العملية، وقد عُنِيَ والده بتربيته تربية دينية قويمة؛ فحفظ القرآن وجوَّدَه، ويقول المؤرِّخون: إنَّ الشيخ حسن قد دخل الأزهر في بداية حياته، ولما قطع المرحلة الثانويَّة اتَّجه إلى مدرسة القضاء الشرعي، وكانت غصنًا يانعًا في دوحة الأزهر الشريف، وحرص القائمون عليها على اختيار أفضل الأساتذة الممتازين للتدريس بها، وجذبوا إليها صفوة طلاب الأزهر، وقد أقبل الشيخ حسن على الدراسة بها، حتى تخرَّج فيها سنة 1918م، وإضافةً إلى هذا أتقن اللغة الفرنسية، وقد درس في الأزهر على مشاهير علمائه، فوجدوا فيها ذهنًا متفتِّحًا، وقريحة متوقِّدة، وعقليَّة قضائيَّة ظهرت بشائرها في بواكير شبابه، وقد آثر دراسة العلوم الفقهيَّة، وأحبَّه أستاذته وأحبَّهم وتنبؤوا له بمستقبلٍ زاهر في القضاء، وفي الرابع من أكتوبر سنة 1919م، عُيِّنَ موظفًا قضائيًّا بمحكمة الزقازيق الشرعيَّة، وفي 1/7/1920 نُقِلَ إلى محكمة القاهرة الشرعيَّة، وفي 14/3/1921م تمت ترقيته إلى قاضٍ من الدرجة الثانية، ونُقل إلى محكمة القاهرة الشرعيَّة، وفي 14/3/1921م تمت ترقيته إلى قاضٍ من الدرجة الأولى بمحكمة القاهرة الشرعية، وظلَّ بها حتى ارتقى إلى منصب قاضٍ سنة 1939م، وكانت شهرته العلميَّة وفضائله الخلقيَّة ومعارفه الفقهية كفيلةٌ بلفت الأنظار إليه، فصدر مرسوم ملكي بتعيينِه قاضيًا لقضاة السودان 3/1/1941م، فقام بواجبه خيرَ قيام، وكانت له مواقف وطنيَّة رائعة، زعزعت المستعمرين؛ فحقدوا عليه، ولأنهم كانوا يخشون الثورات الوطنيَّة في الوقت الذي اشتدَّت فيه وطأة الحرب العالمية الثانية، فأصدر المستعمِر قرارًا بعدم تعيين أحد المصريين في هذا المنصب، وجعلوه مقصورًا على مَن يختارونه من السودانيين، ولما عاد. حسن مأمون إلى القاهرة تَمَّ تعيينه رئيسًا لمحكمة القاهرة الشرعية الابتدائية في 17/2/1947م، وفي 8/12/1947م في نفس العام تمَّت ترقيته إلى عضو بالمحكمة الشرعية العُليا، وفي 13/5/1951م عُيِّنَ نائبًا لرئيس المحكمة الشرعية العُليا، وفي 26/2/1952م عُيِّنَ رئيسًا لها، ولما قربت سنُّ إحالته إلى المعاش في 12/6/1954م طلب وزير العدل من مجلس الوزراء مدَّ مدَّة عمله سنةً أخرى؛ للحاجة الماسة إليه، فوافق المجلس على ذلك في 19/5/1954م، وفي سنة 1955 أُسنِدَ إليه منصب مفتي مصر للانتفاع بكفائته الممتازة، وواسع خبرته، ووافق مجلس الوزراء بقرار رقم 323 لسنة 1955م على إنهاء خِدمته وتعيين فضيلته مفتيًا للديار المصريَّة لمدَّة سنتين اعتبارًا من أول مارس سنة 1955م.
وقد اعتلى الإمام الشيخ حسن مأمون كرسي مشيخة الأزهر خلفًا للإمام الشيخ محمود شلتوت، فعمل جاهدًا على إعلاء شأن الأزهر، وإزالة المصاعب التي كانت تعترضُ طريقه وتعوقُ تقدُّمه، بعد أنْ صدر القرار الجمهوري في 26/7/1964، وكان القانون 103 لسنة 1961، الخاص بإصلاح الأزهر قد سار خُطوات في سبيل التنفيذ، فقاد الإمام هذه الحركة الإصلاحية في رفقٍ ولين، وذلَّل كثيرًا من العقبات التي اعترضت طريق التطوير، كما سخَّر قلمه ولسانه لحركة الإصلاح، وكان ممَّن أحبوا الإمام محمد عبده، وآثروا منهجه في البحث والدرس، وطبق هذا المنهج ونفَّذه بكلِّ دقة وأمانة.
إنَّ من أبرز صفات الإمام حسن أنَّه فقيه مستنير، وقد قضى كلَّ حياته الوظيفيَّة قاضيًا يستعرض أدلَّة الفقهاء، في المذاهب المختلفة، ويُوازن بينها موازنة دقيقة، معتمدًا على نصوص القُرآن الكريم والحديث الشريف والتشريع الإسلامي، وكان ذا بصيرة ملهمة في فقه النصوص الدينيَّة، يتجلَّى هذا في فتاواه، كما يتجلَّى في قضاياه. أمَّا فقهه للقُرآن الكريم فنراه واضحًا في تفسيره لسورة الضحى والانشراح، والقدر، ونلاحظ أسلوبه في التفسير أسلوبًا موجزًا سهلاً واضحًا، يُعنى بعرض المعاني الكليَّة دون دخولٍ في التفصيلات، مع اتِّجاهه للتفكير المنطقي والدليل العقلي، دون تكلُّف أو افتعال، وكذا إلمامه بالحديث الشريف، فيتجلَّى في جميع فتاواه، فهو يستندُ في كلِّ رأي من آرائه إلى القرآن الكريم.
على امتداد حياة الإمام حسن مأمون منذ تولِّيه وظائفه الكثيرة والمتنوِّعة نجد أنَّه ترك ثروةٌ عظيمة من العلم والمعرفة من إلقاء الدروس والمحاضرات والندوات العامَّة، وزيارته للبلاد الاسلامية أنها حياة مليئة بالنشاط والثراء العلمي.
ظلَّ الإمام حسن مأمون يُباشر عمله في ثباتٍ واتِّزان بضمير القاضي النزيه، والعالم الخبير، والفقيه الرشيد، محفوفًا بالمحبَّة والتقدير، حتى أثقلته أعياء الشيخوخة وتناوشَتْه الأمراض، وأحسَّ المسؤولون بحاجته للراحة فاستجابوا لرغبته، وفرغ الإمام للراحة والعبادة والعلاج.
المقالة السابقة