63
الإمام الشيخ الدكتور الفحام، علم من أعلام اللغة العربيَّة البارزين، وباحث من خيرة الباحثين في علوم النحو والصرف والبلاغة والأدب.
ولقد ارتقى فضيلة الدكتور محمد الفحام كرسي مشيخة الأزهر الشريف بعد هذه الحياة الحافلة، وصدَر القرار الجمهوري في 5 رجب 1486هـ 17 سبتمبر سنة 1969 بتعيين فضيلته شيخًا للأزهر مدى الحياة، فنهض بأعباء المشيخة وسط ظروف قاسية، وأمواج متلاطمة، وبين تيَّارات عنيفة، فقاد السفينة بحكمة واقتدار، وفي هدوء واتِّزان، وفي هذه الأثناء ظهرت حركات التبشير عاتية عنيفة قويَّة في إفريقيا وآسيا، وقد استطاع الإمام أنْ يُوائم بين واجبه الديني بوصفه إمامًا أكبر للمسلمين، وواجبه الوطني في وحدة الصف ولم الشمل، وتأمين الجبهة الداخلية، وسنشير إلى ذلك فيما بعدُ.
كان الإمام الدكتور محمد الفحام واسعَ المعرفة، ذا علم غزير، وخلق كريم، وإيمان عميق، كلُّ مَن عرَفه لا يستطيع أنْ يبتعد عنه أو يقطع صلته به؛ فهو ودود صَدوق، فمَن صادقه أحبَّه وازداد حبًّا له يومًا بعد يوم؛ لأنَّه خُلِقَ بطبعه مفطورًا على حبِّ العلم وتحصيله، ولم يخلد للراحة أبدًا أو السكون، بل واصل العمل، وكانت شهرته قد ذاعت، فأقبَلتْ عليه الهيئات العلميَّة في الداخل والخارج؛ ففي سنة 1961 حضر وزير أوقاف الباكستان إلى القاهرة، واجتمع بلفيفٍ من العلماء في مكتب وزير أوقاف مصر؛ لاختيار أحدهم القيام بوضع منهج تدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية بأكاديمية العلوم في باكستان، وكان من بينهم الدكتور محمد الفحام، وبعد يومٍ اتَّصلت به السفارة الباكستانية لمقابلة الوزير الباكستاني؛ حيث تم اختياره لهذه المهمَّة، وزاره وزير أوقاف باكستان بنفسه في بيته احترامًا وتقديرًا، وقال: “إنَّ العلماء يجب أنْ يُؤتَى إليهم، ولا يأتون لأحد”، واخبره الوزير باختياره للسفر إلى باكستان لوضع المناهج المطلوبة، فقضى هناك ستة أشهر، أتَمَّ فيها مهمَّته، وأدَّى واجبه خير أداء، وانتهز الفرصة فزار مدن الهند، وقابل علماءها والهيئات الإسلاميَّة فيها، ووثَّق الروابط بينها وبين الأزهر الشريف.
للإمام الدكتور الفحام مصنَّفات لا تُحصى، خاصَّة أنه تتلمذ على يديه رجالٌ أعلامٌ أخذوا علومهم منه، وأسقاهم من ينابيع معرفته، هؤلاء الأعلام قد ألَّفوا مؤلَّفات جليلة وعظيمة، في الأزهر عددهم لا يحصى، والباقي في جامعتي الإسكندرية والقاهرة، فكلُّهم انتفعوا بعلمه وتخلَّقوا بأخلاقه، ومن العلماء الذين جلسوا منه مجلس التلميذ من الأستاذ، وفي رحلاته الكثيرة التي سبق وذكرناها فلقد خلف رجالاً وعلمهم، وأسسهم على كلِّ ما وهبه الله من علم نافع ومفيد، فلم يُؤلف كتبًا كما فعل كثيرٌ من الأئمَّة قبله، لكن كانت له أبحاث ومحاضرات وإذاعات ولو جمعنا كلَّ هذه المصنفات لبلغت عدَّة مجلدات، حافلة بالعلم الغزير، والتفكير السديد والتوجيه الرشيد، ومن أهمِّ هذه المصنفات:
كان الإمام الدكتور محمد الفحام من ذوي الأدب الرفيع والخلق الكريم، والإيمان العميق، ولو قدر لإنسان إنْ يسلم من عداوة أحدٍ لكان هذا الإنسان هو الدكتور الفحام، وهذا ما لمسه الناس فيه، وكان في إيمانه العميق يعلم أنَّ الحياء شعبه من الإيمان، فيتمسَّك به خاصَّة في أماكن ممكن أنْ يطيش فيها حلم الحليم؛ فكان يدفع السيئة بالحسنة، ويُقابل العدوان بالإحسان، ويُعالج المشكلات بالرفق واللين، مع الهدوء والاتِّزان، وكان دائمًا يختار الأيسر، فعاش في حياته في جوٍّ من المودَّة والرِّفق، ولقد وصفه أحد أصدقائه قائلاً: إنَّه رجلٌ ذو نفس لوَّامة يُحاسب نفسه ويُعاقبها، ويحاذر من إساءة الناس ويتسامحُ فيها، ليس عن ضعف، وإنما هي نفس المؤمن.
المقالة السابقة