22
هو الإمام الفيلسوف مصطفى بن حسن بن أحمد بن محمد بن عبد الرازق، نبت شيخنا في أسرة عريقة في الجاه والعلم والثراء، هذه الأسرة ورثت منصب القضاء كابرًا عن كابرٍ، وعالمًا عن عالمٍ. وكان جدها الأعلى الشيخ عبد الرازق قاضيًا على مدينة (البهنسا) وكانت (البهنسا) قاعدة ولاية كبيرة، على بحر يوسف، ولها ذكرٌ مشهورٌ في تاريخ الفراعنة والنصرانية، والفتح الإسلامي، ويقع في مكانها الآن أو قريب منها قرية صغيرة باسمها تابعة لمركز (بني مزار) محافظة المنيا. وقد نقل جدُّه أحمد بن محمد القضاء من (البهنسا) إلى بلده (بوجرج) وتسمى الآن (أبو جرج) وتبعد عن البهنسا 10 كيلو مترا وله بها دارٌ للسكنى والقضاء، وكان صديقًا لسعيد باشا حاكم مصر.
بعد وفاة عاطر الذكر الإمام الشيخ المراغي سنة 1945 م اعتلى أريكة المشيخة الشيخ مصطفى عبد الرازق، ولم يكن اعتلاؤه لهذا المنصب بالأمر الهين، فلقد قاوم كبار العلماء بالأزهر تعيين الإمام الشيخ مصطفى عبد الرازق، لأن شيخ الأزهر ينبغي أن يكون من جماعة كبار العلماء، ولا يُعيَّنُ بهيئة كبار العلماء إلا من تولى وظائف معينة في القضاء الشرعي، أو درَّسَ بالأزهر مدة معينة، ولم يكن الشيخ كذلك، فلم يعترف كبار العلماء بتدريسه بالجامعة المصرية، فحلَّ أولياءُ الأمر هذه المشكلة بإصدار قانونٍ جديدٍ بأن يكون التدريس بالجامعة المصرية مساويًا للتدريس في الكليات الأزهرية، في الترشيح لمشيخة الأزهر، فأذعن معظم علماء الأزهر إلا قليلا منهم، ليتولى مشيخة الأزهر سنة 1945م.
ويقول عنه الشيخ محمد عبد اللطيف دراز “عرفته أستاذًا في الجامعة ووزيرًا وشيخًا للأزهر، وخالطته طويلا وخبرته أشد الخبرة في كل ما ينبغي أن يَعرِفَ صديقٌ عن صديقٍ وأخٌ عن أخٍ، فأشهد ما تغير وما تقلب به الدهر”.
كان الإمام الشيخ مصطفى عبد الرازق متعدد المواهب متنوع الثقافة والعلم، يكتب في الفقه وأصوله والحديث والتفسير وعلومه، والفلسفة والاجتماع والأدب، وكان شاعرًا مبدعًا وصحفيًا بارزًا وقد تقلد الإمام الشيخ مصطفى مناصب كثيرة في التدريس والقضاء، ورئاسته لجمعيات خيرية إسلامية، وإلقاء المحاضرات في المناسبات المختلفة، كما مُنِحَ ألقابًا عدة من باكاوية وباشاوية، فهو باشا ابن باشا، ومن أصلٍ عريقٍ وبيئةٍ طيبةٍ كلها أهل علمٍ وعلماء، وأهل نضالٍ أيضا، كما تقلد أيضًا مشيخة الأزهر.
هذه نبذه موجزة عن حياة الإمام الشيخ مصطفى عبد الرازق، الذي كانت حياته دليلا ناطقا، وحجة ظاهرة على أنه كان من بيئة عالية القدر، رفيعة الشأن، ضاربة الجذور في أعماق التاريخ، وأنه كان من أكثر الذين تقلدوا مشيخة الأزهر فضلاً، وأوسعهم علماً، وأكثرهم جرأة على إحقاق الحق، وإبطال الباطل، على رغم أنف الحاقدين والكائدين من أعداء التطور، والتحضر في الدين والدنيا. كان الشيخ مصطفى عبد الرازق سمح الطبع والنفس والقلب، لم يخرج عن هذه الخصال طيلة حياته، وكان وفيَّا للذين عرفهم، وحسنت صلته بهم، ويقول من خالطوه إن هذه الصفات وتلك الأخلاق التي التزم بها، ووفاءه لأصدقائه ومعارفه، قد جرت عليه ما يضيق به ويؤلمه في أمور كثيرة، لكنه لم يحفل بعواقب الوفاء.
المقالة السابقة