الشيخ / حسن مأمون

نسبه وبيئته ونشأته وتولِّيه للمشيخة : 

في مدينة الألف مئذنة، وفي بيتٍ من بيوت العلم والسيادة، وُلِدَ الصبي “حسن مصطفى مأمون” في 12 يونيو 1894م، وكان والده الشيخ مصطفى مأمون من علماء الدِّين المعروفين، وكان إمامًا لمسجد الفتح بقصر عابدين، وهو المسجد الذي يُؤدِّي فيه الصلاة ملك مصر (الملك فؤاد)، وبعده الملك فاروق، وإمام هذا المسجد يُراعَى في اختياره العلم الغزير والخلق الكريم، والأدب العظيم، وقد ورث الابن عن ابيه هذه الصفات، ونمَّاها بالدراسات العلمية والتجارب العملية، وقد عُنِيَ والده بتربيته تربية دينية قويمة؛ فحفظ القرآن وجوَّدَه، ويقول المؤرِّخون: إنَّ الشيخ حسن قد دخل الأزهر في بداية حياته، ولما قطع المرحلة الثانويَّة اتَّجه إلى مدرسة القضاء الشرعي، وكانت غصنًا يانعًا في دوحة الأزهر الشريف، وحرص القائمون عليها على اختيار أفضل الأساتذة الممتازين للتدريس بها، وجذبوا إليها صفوة طلاب الأزهر، وقد أقبل الشيخ حسن على الدراسة بها، حتى تخرَّج فيها سنة 1918م، وإضافةً إلى هذا أتقن اللغة الفرنسية، وقد درس في الأزهر على مشاهير علمائه، فوجدوا فيها ذهنًا متفتِّحًا، وقريحة متوقِّدة، وعقليَّة قضائيَّة ظهرت بشائرها في بواكير شبابه، وقد آثر دراسة العلوم الفقهيَّة، وأحبَّه أستاذته وأحبَّهم وتنبؤوا له بمستقبلٍ زاهر في القضاء، وفي الرابع من أكتوبر سنة 1919م، عُيِّنَ موظفًا قضائيًّا بمحكمة الزقازيق الشرعيَّة، وفي 1/7/1920 نُقِلَ إلى محكمة القاهرة الشرعيَّة، وفي 14/3/1921م تمت ترقيته إلى قاضٍ من الدرجة الثانية، ونُقل إلى محكمة القاهرة الشرعيَّة، وفي 14/3/1921م تمت ترقيته إلى قاضٍ من الدرجة الأولى بمحكمة القاهرة الشرعية، وظلَّ بها حتى ارتقى إلى منصب قاضٍ سنة 1939م، وكانت شهرته العلميَّة وفضائله الخلقيَّة ومعارفه الفقهية كفيلةٌ بلفت الأنظار إليه، فصدر مرسوم ملكي بتعيينِه قاضيًا لقضاة السودان 3/1/1941م، فقام بواجبه خيرَ قيام، وكانت له مواقف وطنيَّة رائعة، زعزعت المستعمرين؛ فحقدوا عليه، ولأنهم كانوا يخشون الثورات الوطنيَّة في الوقت الذي اشتدَّت فيه وطأة الحرب العالمية الثانية، فأصدر المستعمِر قرارًا بعدم تعيين أحد المصريين في هذا المنصب، وجعلوه مقصورًا على مَن يختارونه من السودانيين، ولما عاد. حسن مأمون إلى القاهرة تَمَّ تعيينه رئيسًا لمحكمة القاهرة الشرعية الابتدائية في 17/2/1947م، وفي 8/12/1947م في نفس العام تمَّت ترقيته إلى عضو بالمحكمة الشرعية العُليا، وفي 13/5/1951م عُيِّنَ نائبًا لرئيس المحكمة الشرعية العُليا، وفي 26/2/1952م عُيِّنَ رئيسًا لها، ولما قربت سنُّ إحالته إلى المعاش في 12/6/1954م طلب وزير العدل من مجلس الوزراء مدَّ مدَّة عمله سنةً أخرى؛ للحاجة الماسة إليه، فوافق المجلس على ذلك في 19/5/1954م، وفي سنة 1955 أُسنِدَ إليه منصب مفتي مصر للانتفاع بكفائته الممتازة، وواسع خبرته، ووافق مجلس الوزراء بقرار رقم 323 لسنة 1955م على إنهاء خِدمته وتعيين فضيلته مفتيًا للديار المصريَّة لمدَّة سنتين اعتبارًا من أول مارس سنة 1955م.
ومع المناصب العُليا التي شغلها فإنَّه كان حريصًا على إلقاء الدروس على طلبة قسم القضاء وبتخصيص كلية الشريعة، وأيضًا كان أشدَّ سعادةً وهو رئيسٌ لمجلس إدارة مسجد الإمام الشافعي والذي ظلَّ متمسكًا به طوال حياته.

تولِّيه المشيخة : 

وقد اعتلى الإمام الشيخ حسن مأمون كرسي مشيخة الأزهر خلفًا للإمام الشيخ محمود شلتوت، فعمل جاهدًا على إعلاء شأن الأزهر، وإزالة المصاعب التي كانت تعترضُ طريقه وتعوقُ تقدُّمه، بعد أنْ صدر القرار الجمهوري في 26/7/1964، وكان القانون 103 لسنة 1961، الخاص بإصلاح الأزهر قد سار خُطوات في سبيل التنفيذ، فقاد الإمام هذه الحركة الإصلاحية في رفقٍ ولين، وذلَّل كثيرًا من العقبات التي اعترضت طريق التطوير، كما سخَّر قلمه ولسانه لحركة الإصلاح، وكان ممَّن أحبوا الإمام محمد عبده، وآثروا منهجه في البحث والدرس، وطبق هذا المنهج ونفَّذه بكلِّ دقة وأمانة.
وكان دينه أشدَّ سلطانًا عليه من متع الدُّنيا ومناصبها الزائلة، وضرب لهذا مثلاً رائعًا؛ فقد أراد أحد البارزين من مجمع البحوث الإسلامية أيام الرئيس جمال عبدالناصر؛ حيث طلب هذا العضو أنْ يقرر المؤتمر أنَّ الاشتراكية هي روح الإسلام، فغضب الإمام، وأعلن في المؤتمر أنَّ الاشتراكية وغيرها من المذاهب الحديثة، وكان لا يشكُّ في أنَّ هذا التصريح منه سيغير عليه المسؤولين، ولكنه كان لا يخشى في لله لومة لائم، ولا سلطان حاكم، وكانت له ميزات أخرى كثيرة، منها: أنَّه كان حريصًا على رئاسة مجلس إدارة مسجد الإمام الشافعي، وحضور ذكرى مولده كلَّ سنة، ومنها أيضًا إشرافه على الموسوعة الفقهيَّة التي كان يصدرها المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميَّة، حول المذاهب الفقهية الثمانية، وظلَّ هكذا حتى فارق الحياة، ولا ننسى فتاواه التي أربت على أربعة آلاف مسألة، والتي كانت من الدقَّة والعمق بحيث نالت إعجاب العدوِّ قبل الصديق، وكذا مواقفه الإسلامية والوطنية التي يذكرها له التاريخ، ولما دبَّر اليهود احراق المسجد الأقصى وجَّه الإمام حسن مأمون: نداءً قويًّا إلى المسلمين جميعًا في سائر البلدان، وقال فيه: إنَّ الله فرَض الجهاد على كلِّ مسلم أي اعتداء على أي بلد إسلامي، وهو فرض حتى يستردُّوا كلَّ جزء من أراضيهم التي احتلها العدو، وأنَّ إحراق بيتٍ من بيوت الله وبخاصَّة هو أولى القبلتين وثالث الحرمين، جريمة عظيمة لا تُغتَفر لكلِّ مَن يتقاعسُ ويخذلُ في الدِّفاع عنه.
ولمَّا وقع العدوان على مصر سنة 1967م، وجَّه الامام نداءً متكررًا إلى الحكَّام العرب والمسلمين، يُناشدهم فيه باستخدام سلاح البترول، قال: “أيها المسلمون، إن مصر لا تحارب إسرائيل وحدها، إنها تكافح العدوان الموتور، الممثَّل في أمريكا وبريطانيا”، وكان قطع البترول سلاحًا فتاكًا حقَّق النصر، وردَّ للعرب كرامتهم.

آثاره العلمية.. وتأثيره : 

إنَّ من أبرز صفات الإمام حسن أنَّه فقيه مستنير، وقد قضى كلَّ حياته الوظيفيَّة قاضيًا يستعرض أدلَّة الفقهاء، في المذاهب المختلفة، ويُوازن بينها موازنة دقيقة، معتمدًا على نصوص القُرآن الكريم والحديث الشريف والتشريع الإسلامي، وكان ذا بصيرة ملهمة في فقه النصوص الدينيَّة، يتجلَّى هذا في فتاواه، كما يتجلَّى في قضاياه. أمَّا فقهه للقُرآن الكريم فنراه واضحًا في تفسيره لسورة الضحى والانشراح، والقدر، ونلاحظ أسلوبه في التفسير أسلوبًا موجزًا سهلاً واضحًا، يُعنى بعرض المعاني الكليَّة دون دخولٍ في التفصيلات، مع اتِّجاهه للتفكير المنطقي والدليل العقلي، دون تكلُّف أو افتعال، وكذا إلمامه بالحديث الشريف، فيتجلَّى في جميع فتاواه، فهو يستندُ في كلِّ رأي من آرائه إلى القرآن الكريم.
أمَّا فقهه: فيبدو واضحًا فيما أصدره من فتاوى، وفيما كتبه في الموسوعة الفقهيَّة التي يصدرها المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميَّة وأنه لا يتقيَّد بمذهب معيَّن، فهو يلتمسُ الحقيقة أنَّى وجدها في أقوال بعض الصحابة أو التابعين، ويؤيِّد رأيه بعد ذلك بالأدلَّة عقلاً ونقلاً، ولو أمكن جمع فتاويه كلها وتنسيقها لكانت ثروةً فقهيَّة قيِّمة، ولأفادتنا في حلِّ كثير من المشكلات العصرية التي تشغل فكر كثيرٍ من الباحثين، ولقد طبع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الجزء الأول منها، ولعلَّه يطبع باقي الأجزاء، وكان – رحمه الله – ذا بصيرةٍ ملهمة، وكان يخشى أنْ يلعب الاستعمار لعبته القديمة، محاولاً إيقاظ الفتنة والعصبيَّة والدينيَّة في نفوس أقباط مصر، ويشعل بينهم وبين المسلمين نيران الخلاف والانشقاق أثناء انشغال الشعب المصري في صدِّ العدوان عام 1976م، وحدث ذلك فعلاً سنة 1971 في عهد الشيخ الفحام، وكان الإمام الشيخ حسن مأمون يخشى هذه الفتنة، وكان ينتهزُ فرصة المواسم المسيحية فيُوجِّه فيها إلى المسيحيين، التهنئة، ويُذكرهم بالروابط والصلات الجيِّدة في عهد الإمام الأكبر دكتور سيد طنطاوي، والشواهد تُؤيِّد ذلك.
ومن شدَّة حِرصه عند الفتوى ينظر في أمرِ صاحبها ليرى ماذا يقصد من الاستفتاء؛ فإذا أيقن أنَّه يريد أنْ يستغلَّ الفتوى في أمرٍ دنيوي، أو تدبير كيد سياسي، امتنع أنْ يصدر فتواه؛ خشية أنْ يأخذها المستفتي كفرصة كما يُقال: “كلمة حق يُراد بها باطل”، والأمثلة كثيرة لا يتَّسع المقام لحصرها، ولنسوق بعض النماذج في فتاوي تشغل أذهان الناس:
1) هل يصلُ ثواب قراءة القرآن الكريم للميت؟
والمتَّفق أنه لم يرد.. وهناك مسائل خلافيَّة في هذا الرأي.
2) سُئِلَ عن حكم الشرع في ختان الإناث والذكور.
3) هل تجوز الصلاة خلف المذياع، والمقام لا يتَّسع للرد، ومَن أراد فلينظرها في مظانها.
وهذا يدلُّ على سعة أفقه وغزارة علمه، وقوَّة حجته في عبارات موجزة دون ملل، كما يدلُّ أنَّه لا يحصر نفسه في نطاق مذهب معيَّن، وإنما يبحث عن الحقيقة حتى يجدها.
4) وأمَّا مسألة تحديد النسل فقد أدلى العلماء جميعًا برأيهم فيها فيه، فلم يترك على إطلاقه، وأنَّه عالج هذه القضية حسَب ظروف الناس والمجتمع والزمن بالدليل من القُرآن والسُّنَّة والإجماع، ونستطيع أنْ نعقب على هذا بأنَّ الحكم يجب ألا يكون عامًّا.

مؤلفاته ومصنفاته : 

على امتداد حياة الإمام حسن مأمون منذ تولِّيه وظائفه الكثيرة والمتنوِّعة نجد أنَّه ترك ثروةٌ عظيمة من العلم والمعرفة من إلقاء الدروس والمحاضرات والندوات العامَّة، وزيارته للبلاد الاسلامية أنها حياة مليئة بالنشاط والثراء العلمي.
لم يستطع المؤرِّخون ومَن كانوا حوله أنْ يُسجِّلوا حتى ولو نصفها، ونذكُر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1. الفتاوى، أصدر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الجزء الأول منها، وطبعته دار التحرير للطباعة والنشر – القاهرة 1969، والجزء الثاني لدى أنجال الإمام مُعَدٌّ للطبع.
2. دراسات وأبحاث فقهية متنوعة، نشرها الإمام، صدر منها بضعة عشر جزءًا.
3. السيرة العطرة، سلسلة أبحاث كتبها الإمام وأذاعها، طبع منها البعض والآخر ما زال مخطوطًا.
4. الجهاد في الإسلام، دراسات كتبها الإمام منها تسع مقالات مكتوبة بالآلة ولم تنشر.
5. تفسير موجز لسور “الضحى والانشراح.. والقدر” لم تنشر، وغير ذلك الكثير لم يتَّسع له المقام.

وفاته : 

ظلَّ الإمام حسن مأمون يُباشر عمله في ثباتٍ واتِّزان بضمير القاضي النزيه، والعالم الخبير، والفقيه الرشيد، محفوفًا بالمحبَّة والتقدير، حتى أثقلته أعياء الشيخوخة وتناوشَتْه الأمراض، وأحسَّ المسؤولون بحاجته للراحة فاستجابوا لرغبته، وفرغ الإمام للراحة والعبادة والعلاج.
وكان يجد لذَّة كبرى في الدراسات الفقهيَّة، تُنسيه ما يتعرَّض له من أمراض وآلام، ولقد أحبَّه الأزهريون جميعًا، وإن كان قد قضى أكثر حياته بعيدًا عن الأزهر ووظائفه، ولأنَّه كان يسوي بين الازهريين في الحقوق والواجبات دون تمييز، ولا ننسى حبَّ عامَّة الناس وخاصَّتهم.
وفي يوم 29/5/1973 لبَّى الإمام حسن مأمون نداءَ ربِّه، ووافته المنية، فغفر لله له، وأثابه ثواب الاتقياء والصالحين، وتغمَّده بواسع رحمته، وأسكنه فسيحَ جناته، مع الأبرار والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا.

Similar Posts