الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي

10

مولده ونسبه وبيئته وتوليه المشيخة :

هو الإمام الشيخ محمد أبو الفضل الوراقي الجيزاوي، ويذكر المعاصرون للشيخ الجيزاوي أنَّه وُلِدَ سنة 1264هـ – 1847م، وأنه عاش نحو مائة سنة بوراق الحضر التابعة لمركز إمبابة التابع لمديرية الجيزة محافظة الجيزة، ونورد هذه الترجمة من كتاب “الكنز الثمين لعظماء المصريين”؛ أ. فرج سليمان فؤاد، ولقد قام الإمام الجيزاوي بكتابة سيرته الذاتيَّة بنفسه عام 1336هـ، وذلك قبل وفاته بنحو عشرين عامًا؛ حيث يقول: دخلت الكُتَّاب لحفظ القُرآن الكريم كعادة أهل القرية 1269هـ، وحفظت القرآن كلَّه في وقت قصير، فأتممته 1272هـ، وكان سنِّي إذ ذاك عشر سنوات، ودخلت الأزهر 1272هـ، واشتغلت بتجويد القرآن الكريم وحِفظ المتون وتلقِّي بعض الدروس، ثم لازمت الفقه على مذهب الإمام مالك وتلقيت العلوم العربية من نحو وصرف وبلاغة وأدب، وأصول الفقه وتفسير وحديث ومنطق على أكابر المشايخ الموجودين في ذلك الوقت، ومنهم البحر الفهَّامة الشيخ محمد عليش، والشيخ علي العدوى، وعلوم الأصول والحديث وغيره على الشيخ إبراهيم السقا والشيخ الإنبابي والشيخ المرصفي، وغيرهم من أجلاء العلماء والأساتذة، وداومت على الدراسة والاطِّلاع وحضور ساحات العلم وحلقاته حتى 1287هـ، فأمرني الشيخ الإنبابي بالتدريس، فوافقت بعد تردُّد، وفي ربيع الأول 1313ه عُيِّنتُ عضوًا في إدارة الأزهر في زمن الشيخ سليم البشري، ثم استقلت منها وعُيِّنتُ ثانيًا بها 1324هـ، أيَّام الشيخ الشربيني، ثم عُيِّنتُ وكيلاً للأزهر 1326هـ، ثم صدر قرار بتعييني شيخًا للإسكندرية لمدَّة ثماني سنوات، وفي 14 من ذي الحجة 1335هـ – 1917م صدر القرار بتعييني شيخًا للأزهر، ثم أسندت إليَّ مشيخة السادة المالكيَّة 1336هـ – 1918م.
هذا ما كتب الإمام الجيزاوي عن نفسه، وكان الأمل أنْ يُواصل ترجمةَ حياتِه إلى ما قبل وفاته، ولكنَّ أعباء المشيخة والأحداث التي مرَّت بها مصر وبالأزهر في عهده شغلَتْه عن نفسه وعن التدريس والتأليف والكتابة؛ فقد عاصَر أحداث ثورة 1919م، وصِراع الشعب مع الاستعمار، وصِراع الأحزاب السياسيَّة، والصراع بين الزعماء والملك، وكما شاهد اندلاع الثورة من ساحة الأزهر واشتراك المسيحيين وجميع الطوائف الدينيَّة مع كبار علماء الأزهر ومقاومة الاستعمار، واستطاع بنفسه أنْ يقود الأزهر في غمار هذه الأمواج والعواصف.

آثاره العلمية وتأثيره :

وبعد أنْ تمكَّن من علمه أمَرَه شيوخه بالتدريس، وآنَسُوا فيه القدرة على ذلك، وبعد أنْ أخذ الإذن منهم بدأ بقراءة الكتب الأزهريَّة في النحو، ويجب أنْ نشير إلى أنَّ الشيخ الجيزاوي كان شديد الحفظ قوي الاستيعاب، وفي أيام مشيخة الشيخ العروسي الأول ألقى أوَّل درس له، وبحضور جمعٍ كبير من المشايخ والعلماء وجميع الطلاب، ثم لازم التدريس، وقرأ جميع الكتب الفقهية المتداول قراءتها حينذاك، وكذلك كتب اللغة العربيَّة وغيرها من علوم العصر، وقد رزَقَه الله الحظوة؛ فأقبل عليه العلماء والطلاب على السواء، وتخرَّج على يديه أغلب أهل الأزهر، وهو أوَّل مَن شرح كتاب “الخبيصي في المنطق”، وعرف به الطلاب؛ فاشتهر الكتاب على يديه، وذلك بتدريسه مرارًا، وكذلك كتاب “القطب على الشمسية” – قواعد منطق – وكتاب ابن الحاجب في الأصول، وله كتب كثيرة تداولها العلماء والطلبة، وقد كتب على شرح المطوَّل وحاشيته ما يقرب من خمس وأربعين كراسة “ملزمة”، وله جهوده في سبيل الإصلاح في الأزهر؛ فقد خطا خطوات كثيرة منها: أنَّه جعل كلَّ مرحلة من مراحل التعليم بالأزهر أربع سنوات، كما أنشأ قسم التخصص يلتحقُ به الطلاب بعد نيل الشهادة العالمية، وجعل أقسامه هي: التفسير، والحديث، الفقه، والأصول، والنحو والصرف والبلاغة والأدب، والتوحيد والمنطق، والتاريخ، والأخلاق، كما كوَّن لجنة إصلاح الأزهر 1925.
على أنَّه يجب أن ينظر للمرحلتين الابتدائيَّة – وهي المرحلة الإعداديَّة الآن – والمرحلة الثانوية على أنها مرحلة ثقافية عامَّة، ويجب أنْ يدرس فيها العلوم الرياضيَّة التي تدرس بالمدارس العامَّة التربية والتعليم، وأنَّه يكتفى بتدريس العلوم الدينيَّة والعربيَّة بالأقسام العالية والتخصُّصات، ويجب فتح مدارس وزارة المعارف أمام خرِّيجي الأزهر ليدرسوا فيها.
هذا من جانب، ومن الجانب الآخَر نرى أنَّ بعض المؤرخين قد أوجز الحديث عن الأئمَّة الخمسة من شيوخ الأزهر، وهم: القطب النواوي، سليم البشري، علي الببلاوي، عبدالرحمن الشربيني، محمد أبو الفضل الجيزاوي؛ لأسبابٍ عديدة نوجزُ بعضها:
أولاً : إنَّ منصب شيخ الأزهر في أيامهم قد ضعُف بعدما كان قويًّا مهابًا عزيز الجانب، وصار ألعوبةً في أيدي الحكَّام، يُقلِّدون مَن يشاؤون المشيخة، وينتزعونها ممَّن يشاؤون.

ثانيًا : إنَّ مَن يتولى منصب المشيخة لا يطيقُ صبرًا على البقاء فيها لأسبابٍ لا يتَّسع المقام لذِكرها؛ فكانوا يستقيلون المرَّة تلو الأخرى، ويعتكفون في بيوتهم؛ رغبةً في التخفُّف من أعباء وهموم هذا المنصب.
ثالثًا : إنَّ بعض المناصب لا يطولها العزل؛ مثل: عضوية مجلس الشورى، وعلى الرغم من أنَّ منصب مشيخة الأزهر كان أَوْلَى بهذه الحصانة وأحق، وكان واقع هذا في بداية قيام مشيخة الأزهر، على أيدي العثمانيين، وغير ذلك من الأسباب.

مؤلفاته وتصانيفه :

كان الإمام الشيخ الجيزاوي واسع الاطِّلاع في العلوم الفقهيَّة والفلسفيَّة وتاريخ الإسلام، ومن مؤلفاته:
1- إجازة منه إلى الشيخ محمد بن محمد المراغي المالكي الجرجاوي، أجازَه فيها بما في ثبت الشيخ محمد بن محمد الأمير الكبير، نسخه خطية.
2- الطراز الحديث في فن مصطلح الحديث.
3- تعليقات على شرح العضد.
4- أصول الفقه.
5- كتاب تحقيقات شريفة… وغير ذلك.

وفاته :

لقد كان – رحمة لله عليه – دمث الخلق، ليِّن الجانب، ورعًا تقيًّا، وكان يمتاز بالقوَّة الجسدية والعقلية والخلقية، ويمتاز بحسن الحديث، وقد أجمعت القلوب على حبِّه وإكباره، ولقد أطال الله عمره حتى امتدَّ إليه وهن الشيخوخة، وضعُفت قوَّته، وقد وافته المنية بعد عمر ناهز المائة عام، وانتقل إلى رحمة لله ولحق بالرَّفيق الأعلى عام 1364هـ – 1927م، ولم يذكر المؤرِّخون مكان دفنه، ويرجح أنَّه دُفِنَ كما دُفِنَ أسلافه الكرام، تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، وهكذا موت الأمة في موت عالم!

Similar Posts