الشيخ / محمد الأحمدي الظواهري

محمد الأحمدي الظواهري

نسبه ونشأته وبيئته وتوليه المشيخة :

 هو الإمام الشيخ محمد الأحمدي ابن العلامة الشيخ إبراهيم بن إبراهيم الظواهري، ولد بقرية كفر الظواهري من محافظة الشرقية 1295هـ – 1887م، وقرية الظواهرية أصلها من قبيلة النفيعات التي تسمى الآن النوافعة؛ نسبة إلى نافع بن ثوران من قبيلة طيِّئ، نشأ في أسرة كريمة مشهورة بالصلاح والتقوى، وكان والده من خيرة علماء الأزهر الشريف المتصوفين، وكان جده إبراهيم صوفيًّا معروفًا لدى جميع الطرق الصوفية في مصر والعالم الإسلامي، وأُذيع عنه أنْ شاهد ليلة القدر، فدعا الله فيها أنْ يغفر له ولذريَّته ولكلِّ مَن أكل طعامه، فاستجاب الله دعاءه، وأُذِيع الخبر وانتشر بين الناس، فتهافتوا على بيته، يطلب كلٌّ منهم رغيفًا أو كسرة خبزٍ لينالوا المغفرة، والمطالع لتاريخ قرية الظواهري يتبيَّن له أنها قرية ذات شأنٍ؛ فإليها ينتسب أدباء وعلماء لا حدَّ لكثرتهم من الأطباء العباقرة في الميادين المختلفة، وفي هذه القرية التي تعرف بماضيها عاش الأحمدي الظواهري.
عاش الأحمدي الظواهري طفولته الأولى، حيث حفظ القرآن الكريم، وعرف بعض المواد المؤدِّية لدخوله الأزهر، ورحل للقاهرة وانتسب للأزهر، ودرس علومه على كبار شيوخه وأصحاب الشهرة والصيت منهم، وبالمناسبة فإنَّ الأزهر وقتَها كان يخوض حركة إصلاحية نشطة متوقِّدة؛ فقد حضر إلى مصر جمال الدين الأفغاني، وانضمَّ إلى مجلسه أرباب اللسان والقلم من أبناء مصر، وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده، ومَن سار على دربه، ويذكر أنَّ الرواق العباسي كان هو المنتدى لاجتماع تلك النُّخبة من النُّبهاء، والاستماع إلى ما يُلقى فيه من محاضرات ومحاورات ومناظرات. وكان الشيخ الأحمدي يحضر ذلك المنتدى، ويستمع إلى ما يُلقى فيه، لا سيَّما من الإمام محمد عبده، حتى تأثَّر به، وعقد النيَّة على تبنِّي دعوته في إصلاح الأزهر وإثراء الحركة العلمية والتعليمية فيه، وذلك إذا سنحت له الفرصة، وقد كان!
ومن الجدير بالذِّكر أنَّ والد الشيخ الظواهري كان زميلاً للشيخ محمد عبده، ولكن طبيعة كل منهما كانت مخالفةً للآخَر؛ فقد كان الشيخ إبراهيم مفرطًا في التصوُّف، وما ينسب إليهم من كرامات، وكان الشيخ محمد عبده يؤمن بالعقل المفكِّر، والأقيسة المنطقية، ويعيب على الصوفية عكوفهم على الأضرحة، وتقديس المشايخ، وهذا طبعًا لا يقبله الدِّين الإسلامي، ولا يقرُّه عقل، وإذا كان الإمام محمد عبده لا يخلو من نزعة صوفية روحية يلتزمها في سلوكه وتصرُّفاته، وينصح طلابه بأنْ يدرسوا كتاب “إحياء علوم الدين”؛ للغزالي، الذي ينقِّي الدِّين من تلك الترهلات العقدية، ولقد تأثَّر الشيخ الظواهري بأبيه، وقد سماه الأحمدي تيمُّنًا باسم “السيد أحمد البدوي”، ولكنَّه تأثَّر بالإمام محمد عبده أبضًا فكان معجبًا بأسلوبه في الكتابة والبحث والتدريس، مؤمنًا بأسلوبه الإصلاحي للأزهر، وكان دائم التردُّد على حلقاته العلميَّة، وفي الوقت نفسه كان يتردَّد على زيارة الأضرحة، وقد كتب ابنه د. فخر الدين الأحمدي الظواهري طائفةً كبيرة من ذكريات والده في كتابه “السياسة والأزهر” أورد فيها طائفةً من حكايات الشيخ الإمام مع هؤلاء الدراويش، وهذا الكتاب فيه كثيرٌ من مذكرات الشيخ، وهو مطبوع في مطبعة الاعتماد بالقاهرة 1945، والمقام لا يتَّسع لذكر بعض هذه المذكرات، فمَن أرادها فلينظرها.
ومع ذلك فقد كان الظواهري عند سردِه لخواطره متأثرًا بالشيخ محمد عبده، ويعتبر كل ما يفعله الدراويش وما يقع معهم من أحداث مرجعها الصدفة، وأنَّ الله – سبحانه وتعالى – هو العليم بما في الصدور، واهب الخير ومسهِّل الأمر، وملقي المعرفة، وملهم الصواب، ومن هنا يظهر لنا أنَّ الشيخ الظواهري كانت تتنازعه العقلانيَّة متأثرًا بالإمام محمد عبده، والعاطفة الوجدانية متأثرًا بأبيه وجدِّه.
وأمَّا آراؤه الإصلاحيَّة للأزهر فهي مستقاة من آراء الشيخ “محمد عبده” في التطوُّر والمنهج؛ لهذا كانت صوفيَّته مغايرة إلى حدٍّ كبير لصوفيَّة أبيه؛ فقد اتَّخذ من التصوُّف وسيلة ومنهجًا للدعوة إلى الله على بصيرة، ولمقاومة البدع والخرافات، والتَّواصي بالخير، يقول: لعلَّ قراءتي لكتاب “حكم ابن عطاء السكندري”، وهو من أهمِّ كتب التصوُّف، قد أذكت في نفسي نزعة، فسرت فيها منذ الطفولة؛ هي نزعة التعلُّق الروحي بالذات الصمدانية، ولكنَّ الصوفية التي رغبتها لنفسي في أيَّام شبابي كانت مغايرةً لما اعتاد عليه القوم وقتئذٍ أنْ يشوهوا بها هذه الناحية العظيمة من التديُّن، ويقول: لهذا قد وضعت في برنامج حياتي منذُ تخرجي أن أفتح في الصوفية فتحًا جديدًا، وأنقيها ممَّا علق بها من الخرافات والمشوهات، ولأرفعها إلى ما هي جديرة به من المستوى العالي في التقرُّب إلى ذات الله؛ فأتخذ من ذلك سلمًا لإرشاد الناس، كما يجب أنْ يكون الإرشاد مبنيًّا على الأصول الدينية الصحيحة، وحينئذٍ أكون قد أرجعت الصوفية إلى العلماء والفقهاء، وأرجعتهم للصوفية أيضًا.
وأمَّا دراسات الشيخ الظواهري العلمية فلم يلتزم فيها بكتاب معيَّن، ولم يتقيَّد بحضور درس على شيخٍ معيَّن إلا الشيخ محمد عبده؛ لأنَّه كان ذا طبيعة نزَّاعة إلى المعارف والعلوم، ينشدها أنى وجدها، ويواصل الظواهري قوله: ولهذا نرى أنَّ ظهوري في حلقات الدرس في الأزهر لم يكن كظهور باقي الطلبة؛ فلم أشترك مع الطلبة في الحي الأزهري هناك في المأكل والمشرب وباقي اجتماعاتهم؛ ولذا أشيع عنِّي الانصراف عن العلم والتعليم، لكني كنت منشغلاً بالدروس في المنزل، ويقول عندما دخلت امتحان العالمية، ورأس اللجنة الإمام “محمد عبده” وبدأت إجابة السؤال الذي أنا بصدده ودخلت في جوهر الموضوع مباشرةً، وانتهيت من تقرير البحث وانتظرت، ولكنَّ الإمام ظلَّ صامتًا، فخطر لي معاودة الكلام في نفس البحث بأسلوب آخَر، فقلت: والحاصل، فردَّ عليَّ الإمام: لماذا تعيد الكلام؟ لقد تكلمت كلامًا طيبًا وعالجت البحث علاجًا رائعًا، والأحسن أنْ تنتقل إلى بحثٍ آخَر، وأعضاء اللجنة بدؤوا مناقشة، وفجأة قال الإمام محمد عبده: إنَّ ترتيبك في أبحاثك وطريقة عرضها طريقة جميلة، وسأتَّخذ معك طريقًا آخَر، وأخذ يقلب أوضاع المسائل، ويخرج من علمٍ إلى آخَر، وقد طالت المناورة بضع ساعات على خلاف المألوف، فطلبت نفسي شربة ماء لشدَّة ظمئي، فغالبت نفسي تأدُّبًا وحياء من اللجنة، لكنِّي أخيرًا طلبت الماء، فقال الشيخ محمد عبده: أنت تستحقُّ شربات لا ماء، فقد أحسنت أيما إحسان، وأرسل في طلب سطل من الخرُّوب، فشربت وشربوا، وبذلك قال الإمام: لقد فتح الله عليك يا أحمدي، والله إنَّك لأعلمُ من أبيك، ولو كان عندي أرقى من الدرجة الأولى لأعطيتُك إيَّاها.
ونرى من ذلك أنَّ الشيخ محمد عبده، كان رجلاً قويَّ الرأي وقويَّ الأخلاق، ولم ينظر للخلافات الفردية، فلم يغمط الرجل حقه، وهذا شأن العظماء؛ يفتحون الأبواب أمامَ المواهب ويرعونها، حتى تُؤتِي أطيبَ الثمرات، وهكذا ألَّف الإمام محمد عبده رجالاً وكتبًا، وأوجد نهضة علميَّة لتُعطي أكلها كلَّ حين.

توليه المشيخة :  

عرف الإنجليز سموَّ فكر الشيخ المراغي ورجاحة عقله وهو في السودان، وأنهم يستطيعون التفاهُم معه عند الحاجة إليه، وعيَّنه الملك فؤاد شيخًا للأزهر، ونتيجةً لأمورٍ لم يرضَ عنها الشيخ المراغي قدَّم استقالته للمرَّة الأولى، وصدر القرار بتعيين الشيخ الأحمدي الظواهري شيخًا للأزهر في 7 جمادى الأولى سنة 1348هـ – 1929م، وقد أفاض المؤرِّخون وغيرهم في الحديث عن الإمام الجليل الشيخ الظواهري، وذِكر مفاخره ومَآثره، ولقد حاولت أنْ أرسم صورةً واضحة لحياته الثريَّة والإنجازات الوثَّابة، ولقد تولَّى الشيخ الظواهري المشيخة والأزهر على مشارف حركة إصلاحية رائدة، ومسرحًا لنهضة علميَّة مشتعلة حماسًا وحميَّة على الأزهر والإسلام، وترقَّب الأزهر خيرًا على يد شيخه الجديد الذي أعلن منهجه الإصلاحي من قبل ذلك، وسجَّله في كتابه “العلم والعلماء”، وهو كتاب قيِّم، وصفه كُتَّاب الإشراق في دائرة المعارف الإسلامية، قال أحدهم: إنَّ روح الإخلاص والصفاء التي تظهر في هذا الكتاب لَتُعَدُّ نادرةً حتى بيننا نحن المسيحيين، فما بالك بالإسلام الذي دبَّ فيه الجمود؟!
ومن العجيب جدًّا في هذا الكتاب الجمع بين وجهة النظر الإسلامية والإحساس بفائدة ما يأتي من مصادر أخرى؛ فالمؤلف يرى أنَّه يجب على المسلمين أنْ يأخذوا العلم من أيِّ مصدر كان، شرقًا أم غربًا، وأنَّ المواد التي يجبُ دراستها على الدعوة الإسلامية، ويرغب المؤلف في عقد مؤتمرات سنويَّة لبناء فكرة الجامعة الإسلامية، ثم يعين وسائل الثقافة اللازمة لكبار العلماء، إلى أن قال في كتابه “العلم والعلماء: “إنَّه يجب تطهيرُ الاسلام من الخزعبلات والعوائق التي تُشوِّه معانيه وترهقه، والكتاب على كل حال برهانٌ ساطع يوضِّح أنَّ مؤلِّفه وكاتبه على عقيدة راسخة وإيمانٍ بالمُثُلِ العُليا، وكان الإمام الظواهري متأثرًا بالإمام محمد عبده كما ذكر، وقد سبقه الشيخ المراغي إلى دروب الإصلاح تلك، فلمَّا ولي الشيخ الظواهري بعده المشيخة وضع خبرته وتجاربه، وما استفاده من المراغي في مذكرة عامَّة لإصلاح شؤون الأزهر، ولقد تصارعت ثلاث سلطات في ذلك الوقت حول مشيخة الأزهر؛ لما للأزهر من مكانة في العالم الإسلامي، وفي نفوس الشعب المصري المفطور على التمسُّك بالدِّين، ولما للأزهر من فاعلية في توجيه واختيار السُّلطات الحاكمة، وهذه السُّلطات تتمثَّل في ثلاث جبهات متصارعة:
1) الحاكم الرسمي للدولة (الملك).
2) سلطة الشعب ممثلاً في (الدستور).
3) قوَّة جيش الاحتلال وسلاحه، وهذه الأحزاب الثلاثة تضارب بعضها، ويتحالف هذا ضد الآخر، ولما تُوفِّي الإمام أبو الفضل الجيزاوي شيخ الأزهر تطلَّعت كلُّ قوَّة منها للسيطرة على الأزهر عن طريق شيخ جديد مُوالٍ لها، يُساعدها على نشر نفوذها بين الطلبة والعلماء، أمَّا الملك فكان رجله المفضَّل هو الشيخ الأحمدي الظواهري، ويثقُ به، ويعتقد أنَّ الارتكان إليه يُعطيه قوَّةً في تنفيذ ما يريده من إصلاح، والحزبان الآخَران يرشحان للمشيخة الشيخ المراغي، وسلطة الاحتلال تتظاهر بعدم التدخُّل في الشؤون الدينية، لكنَّها حريصة على أنْ تحرم الملك من الهيمنة على الأزهر؛ حتى لا يطغى سلطانه عن طريق رجال الدين، وتولَّى الشيخ الظواهري المشيخة بعد استقالة الشيخ المراغي كما ذكرنا.
ومن الواضح أنَّ الشيخ الظواهري كان له حركة دائبة في نصرة الإسلام والتمكين له والعمل على رفع شأنه، وإعلاء لوائه، وأنَّه كان جريئًا في الوقوف إلى جانب ما يرى أنَّه الحق، لا يُماري، ولا يُواري، ولا يُداهن، ومن أجل هذا كان ذا مكانةٍ لدى المصريين جميعًا؛ العلماء وغير العلماء، وما كاد يتولى المشيخة حتى شكَّل لجانًا لتحقيق ما يتعطَّش إليه من الإصلاح الشامل الذي كان ينشده الإمام محمد عبده، وغيره من ذوي الهمَّة والغيرة على الأزهر، والذين كانوا يُطالبون بهذا في عزمٍ وجدّ على أنْ يتبوَّأ الأزهر مكانته العلمية والسياسية والتثقيفية في مصر خاصَّة، والعالم الإسلامي على وجه العموم، وأعماله في هذا المجال من الكثرة أكثر من أن تُحصَى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر آثاره العلمية وتأثيره.

آثاره العلمية وتأثيره : 

إنَّ للشيخ الإمام الظواهري أعمالاً جليلة قبل اعتلائه كرسي المشيخة أوضحت أنَّه كان يتمتَّع بعقليَّة إدارية ناضجة من الطراز الأوَّل، عقلية متفتحة مبتكرة مع علمٍ غزير، ويدلُّ على ذلك عندما تم إنشاء “المعهد العالي” بمعهد طنطا الديني الأزهري حرص المسؤولون على أنْ يحشدوا فيه المواهب الفنية من المدرسين، وما كاد الشيخ الأحمدي يحصل على الشهادة العالمية من الدرجة الأولى حتى رشَّحته مواهبه للتدريس بالقسم العالي بهذا المعهد، فانتدبه شيخ الأزهر للتدريس فيه، مع أنَّه كان صغير السنِّ، ولم تكن لديه خبرة سابقة بالتدريس قبل ذلك، والمعروف أنَّ معهد طنطا يعدُّ من أقدم المعاهد الأزهريَّة بالمحافظات والأقاليم حينئذٍ، وهو يلي الجامع الأزهر في المنزلة، ويمنح طلبته وخرِّيجيه شهادة العالمية، ومن هنا نرى أنَّ انتداب الشاب الأحمدي الظواهري للتدريس بالقسم العالي فيه، وسنُّه لم يتجاوز السابعة والعشرين، وطلبة القسم العالي يكبرونه بكثيرٍ، وكانت مفاجأةً كبرى للطلاب والعلماء على السواء، ولكنَّ الشاب الواثق من علمه ومادَّته، والموهوب في عمله، أجاد وأفاد ولفت الأنظار إليه، واتَّسعت حلقته العلمية، وأقبل عليه الطلاب والدارسون إقبالاً منقطع النظير؛ لأسلوبه الواضح القوي، وفصاحته البالغة في شرح المشكلات العلميَّة، وتذليل الصعاب أمام الطلاب، وتوضيح ما استغلق عليهم فهمه، إضافةً إلى حسن مظهره وبشاشة صورته وحسن هندامه، وكان إلى جانب قيامه بالتدريس يُباشر دعوته الصوفيَّة على نهج الطريقة الشاذلية، وأقبل عليه الجمهور، كما أقبل عليه الطلبة، وبدأ ينتقل بين المدن الكبرى داعيًا إلى الله، ونجحت دعوته واهتدى على يديه الكثيرون، وتركوا المنكرات وشرب الخمر والمخدرات ولعب الميسر، وأقبَلُوا على الطاعات، وكان يصلح بين الناس، وفي هذه الفترة ألَّف كتاب “العلم والعلماء”، يدعو فيه إلى الإصلاح، وينتقد فيه عيوب التدريس وأساليب العلماء، ويقول في هذا: “كانت النفوس وقتها مستعدَّة لفكرة الإصلاح وقبولها؛ فقد كان الشيخ محمد عبده يُجاهد لأجله منذ بعض الزمن فنجح في لفت أنظار أولي الأمر إلى الأزهر، وكان العامل الحقيقي في عرقلة تنظيم الأزهر على برنامج شامل مرجعه سببان: أولهما بغض العلماء وعدم رضاهم عن فكرة الإصلاح، وثانيهما: نفور سياسي من الخديو عباس حاكم مصر وبين محمد عبده، وفي هذا الجو الملبَّد بالغيوم ألَّف الإمام الظواهري كتابه “العلم والعلماء” يسخطُ فيه على أحوال الأزهر ومشايخه ورجاله، وغضب الكثير على الكتاب ومنهم الخديو ما عدا رئيس النُّظَّار “الوزراء” وقتَها؛ فقد أُعجب بالكتاب، واستقبل الشيخ الظواهري في مكتبه قائلاً: “إني عشت حتى رأيت مَن يجهرُ بمثل هذه الآراء البنَّاءة، ولو كان في الأزهر كثيرون مثلك لما كنَّا في حاجة إلى إنشاء دار العلوم، وقال له: أنت شجاع في كتابك، فكن شجاعًا في عملك، ولقد وقف المسؤولون ضدَّه، ونصحه والده بالهدوء، وبشَّره بأنه سيكون شيخًا للأزهر، وبعدها يستطيع فعلَ ما يشاء، والجدير بالذِّكر أنَّ الشيخ الظواهري كان يدرس لطلبة العالمية أمَّهات الكتب؛ مثل مختصر ابن الحاجب في الأصول، والعقائد النسفية في التوحيد، وآداب اللغة العربية؛ للعسكري، ودلائل الإعجاز – بلاغة، والبخاري والنسفي، وكلُّ هذه الأمَّهات كان يدرسها في وقتٍ واحد على طلاب العالمية، وهذا يدلُّ على سعة علمه الغزير. وتقلَّد الإمام الظواهري شياخة معهد طنطا، وحاول إصلاح المناهج ووسائل التدريس بالمعهد، ولم يُوافق المجلس الأعلى على برنامجه الإصلاحي؛ فاعتمد الشيخ على نفسه في التطوير داخل دائرة اختصاصه، كما قام بإنشاء جمعيَّات ولجانٍ كثيرة هدفها الإصلاح وخدمة المجتمع، نشير إلى بعضها:
1) جمعية علم التوحيد: تبحث في شبهات الإلحاد والرد عليها.
2) إلقاء محاضرات من علماء خارج الأزهر.
3) أنشأ جمعية الخطابة من طلبة المعهد -ـ للوعظ.
4) جمعية متن اللغة والبلاغة.
5) الرياضة البدنية لتشجيع الطلاب على ذلك.
6) جمعية الرحلات لسفر الطلبة للأماكن التاريخية.
7) مجلة معهد طنطا – من ماله الخاص فعبرت عن الكثير.
8) أقام جمعية المراقبين والملاحظين؛ للإشراف على الطلب داخل وخارج المعهد، وهذا كله مسجل.
وتوالت الإصلاحات والأحداث، وفي سنة 1925م تجدَّدت الدعوة لإصلاح الأزهر والنُّهوض به، وتألَّفت لجنة برئاسة رئيس الوزراء وبعض النُّوَّاب والشيوخ، وكان من أعضائها أحمد لطفي السيد، وعبدالعزيز جاويش، والشيخ المراغي، والشيخ الظواهري، وانتهى الرأي إلى إلغاء مدرسة القضاء الشرعي كليَّة دار العلوم، بشرط أنْ يكون الأزهر تابعًا لوزارة المعارف، وتكون لها السيطرة عليه، على أنْ يبقى لشيخ الأزهر مظهره الديني وكان رأيًا خطيرًا، معناه: إلغاء الأزهر واستقلاليَّته، وهدم مكانته التاريخيَّة ومكناته في العالم الإسلامي، وهذا ما يريده الإنجليز منذ قديم الزمن؛ القضاء على الأزهر، وهنا وقف الشيخ الأحمدي الظواهري موقفًا شجاعًا كريمًا ثار فيه على هذا الرأي وقال: إنكم بهذا تريدون القضاء على الأزهر والنفوذ الديني في البلاد، وهذا ما يريده الاستعمار، ثم قدَّم مذكرة باعتراضه هذا إلى الملك فؤاد، وبعد المناقشة والتداول والإقناع، رفض ضمَّ الأزهر للمعارف. ومن أعماله أيضًا ما حدث سنة 1926 في المؤتمر الإسلامي الذي عُقد بمكة؛ حيث نجح في كسب اتِّخاذ قرار بإعلان وحدة مصر والسودان، ولقد خطا الظواهري خطوات في طريق الإصلاح فأصدر قانونًا بالآتي:
1. إنشاء كلية الشريعة؛ لتخريج علماء الإفتاء… إلخ.
2. كلية أصول الدين؛ لتخريج مدرسي الدين بالأزهر والمدارس الأخرى.
3. كلية اللغة العربية، وحددت فيها مدَّة سنوات الدراسة، والمواد التي تُدرس في كل مرحلة، وأنشأ المجلس الأعلى للأزهر، ومن الملاحظ أنَّ الشيخ الظواهري لم يستطع تحقيق كل ما كان يصبو إليه والمسجَّل في كتابه “العلم والعلماء”؛ وذلك لاعتباراتٍ سياسية، وضاعت آمال العلماء والطلبة، والذي زاد الأمر تعقيدًا أنَّ العالم كلَّه كان يمرُّ بأزمة اقتصادية خانقة؛ فلا وظائف للخريجين من كلِّ الجامعات، وبدأت الأمور تنقلب ضدَّ الشيخ الظواهري من الخارج ومن داخل الأزهر نفسه، أضفْ إلى ذلك التيَّارات الحزبية والسياسية، فضاق عليه الخناق؛ فقدم استقالته في 23 محرم 1354هـ – 1935م، وأُعِيد الشيخ المراغي للمشيخة للمرَّة الثانية، ومن مَآثر الشيخ الظواهري الجليَّة والتي ما زالت باقيةً إنشاؤه “مجلة الأزهر”، وإيفاد دعاة لنشر مبادئ الإسلام في الخارج، ولو استقرَّت الأمور في عهده، ولو أنَّه تسامح بعض الشيء مع السُّلطات لجاء بالخير الكثير والفضل العميم، ويكفي أنَّه أعلى صوتَ الأزهر وأصبح مسموعًا، محتلاًّ مكانته الرائدة، وفي مقال نُشِر بجريدة الأهرام وقتها يقول: إنَّ الإمام الظواهري كان من تلاميذ محمد عبده، فهو يذكره في كتابه “العلم والعلماء” صراحةً، وينهج نهجه في التعليم، ويدعو الأزهر إلى ترسُّم خطاه، والمعروف أنَّ الإمام الظواهري كان فيلسوفًا ناشئًا إنْ لم يكن يعلم ذلك عن نفسه، وأجمع العارفون به على ذكائه وقدَّروا له مكانته الإصلاحية، وأنَّ كل جديد حدث في الأزهر من مُنشآت وإصلاح كانت عليه بصماته، وأدخل علومًا جديدة لم يدرسها الأزهر مثل اللغات الأجنبية “شرقية وغربية” واقتصاد سياسي، وقانون دولي، وعلم نفس، وغير ذلك من العلوم.
وأقول مرَّةً ثانية: لو أنَّ الظواهري هادَنَ وسالم الحاقدين عليه من ذوي النفوذ وأخذهم بالحسنى لما ترك لهم فرصة التقوُّل عليه والإيقاع به، لكن هكذا دائمًا كل مصلح ناجح محسود.

مؤلفاته وتصانيفه :

نقول: لو لم تكن المشاغل الجسام والهموم المتراكمة، والأحداث المتوالية والتيارات السياسية، والأكاذيب الباطلة، التي حدثت في عهد الشيخ الظواهري، هذه الأمور حالت بينه وبين التأليف، ولو تفرَّغ له لأنتج إنتاجًا قيمًا بفِكرِه المنتظم وثقافته الواسعة وذكائه المتوقِّد، وعلى الرغم من ذلك كله فإنَّه ترك لنا ثروةً من مؤلفاته القيمة لا بأس بها، منها ما طُبع، ومنها ما يزال مخطوطًا من ذلك:
1. العلم والعلماء، وقد نوَّهنا إلى بعض محتوياته.
2. رسالة الأخلاق الكبرى، وقد لخصها وطُبعت على نفقة الأزهر.
3. السياسة والأزهر، مجموعة مذكرات ومقالات.
4. كثير من المخطوطات تزيد على الثمانية، مخطوطات كتبها في شبابه في مكتبته.

وفاته : 

وهكذا كان الإمام الظواهري صلبًا فيما يعتقده حقًّا، حريصًا على إقرار النظام وسيادة القانون، ولقد واجه ضغوطًا شرسة من الطوائف الحزبية ومن بعض العلماء؛ فقابل كلَّ هذا بحزمٍ وشدَّة، وكان يرى أنَّ الأزهر لا يتقدَّم إلا في ظل الهدوء والسكينة واحترام القوانين.
وكان – رحمة الله عليه – على ما عُرف عنه من الشدة يقول دائمًا: إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وما أنا إلا خادم للأزهر وأبنائه، وكان الشيخ الظواهري يسير إلى هدفه بجدٍّ وحكمة، لا يكلُّ ولا يملُّ من عمل يعمله أو يقوم به، وكان الملك فؤاد يثقُ به ثقةً مطلقة منذ عهده به، كان يستدعيه أحيانًا من طنطا في مقابلات خاصَّة يستشيرُه في كثيرٍ من الشؤون الدينية والمدنية، ومع هذا لم يملأه الغرور، وظلَّ متواضعًا زاهدًا مع ثرائه وسعة رزقه.
وفي بداية حياته كان حريصًا على أخذ نفسه بالشدَّة، وتعويدها على عظائم الأمور واحتمال المشقَّات؛ فقد ألَّف كتابه “العلم والعلماء” بعد تخرُّجه مباشرةً، وأدخله هذا المؤلَّف في دائرة الريب والشك والعداء من الداعين للتمسُّك بالقديم، وأوعزوا للإمام، الشربيني بإحراق هذا الكتاب، وأشرنا إلى ذلك.
وامتاز الشيخ – رحمه الله – بقوَّة العزيمة، وتنفيذ ما عزم عليه فورًا، وكأنما خلق ليكون إداريًّا من الطراز الأول، وقائدًا من الموهوبين.
وبعدُ، فهذا هو الإمام الظواهري، وهذه آثاره من حياته قبل اعتلائه عرشَ مشيخة الأزهر وبعدها، وهذه شهادة حق ودليل صدق على الجهود الشاقَّة التي بذلها في سبيل الإسلام في مصر وخارجها، وفي سبيل الأزهر الشريف وبرامجه الإصلاحية وحركته العلمية، وقد استقال من منصبه سنة 1935، وعاش ما بقي من حياته برًّا كريمًا حتى لبَّى نداء ربِّه الكريم سنة 1944م، فعليه رحمة الله، وغفر له وأعطاه ثواب المخلصين الشاكرين الصابرين، ولم يذكر المؤرِّخون شهرَ وفاته، ولا المكان الذي دُفن فيه، وغالبًا دُفن في بلدته الشرقية.
وهكذا دائمًا فإنَّ موت الأمَّة في موت العالم!

Similar Posts