الشيخ/ مصطفى عبد الرازق

Mostafa Abdel Razek

مولده ونشأته وبيئته وتوليه المشيخة :

هو الإمام الفيلسوف مصطفى بن حسن بن أحمد بن محمد بن عبد الرازق، نبت شيخنا في أسرة عريقة في الجاه والعلم والثراء، هذه الأسرة ورثت منصب القضاء كابرًا عن كابرٍ، وعالمًا عن عالمٍ. وكان جدها الأعلى الشيخ عبد الرازق قاضيًا على مدينة (البهنسا) وكانت (البهنسا) قاعدة ولاية كبيرة، على بحر يوسف، ولها ذكرٌ مشهورٌ في تاريخ الفراعنة والنصرانية، والفتح الإسلامي، ويقع في مكانها الآن أو قريب منها قرية صغيرة باسمها تابعة لمركز (بني مزار) محافظة المنيا. وقد نقل جدُّه أحمد بن محمد القضاء من (البهنسا) إلى بلده (بوجرج) وتسمى الآن (أبو جرج) وتبعد عن البهنسا 10 كيلو مترا وله بها دارٌ للسكنى والقضاء، وكان صديقًا لسعيد باشا حاكم مصر.
وقد زاره سعيد باشا مراتٍ عديدةً، وكان والد الإمام الشيخ مصطفى صديقًا ورفيقًا للإمام محمد عبده، واشترك معه في إنشاء (الجمعية الخيرية الإسلامية) وقد وُلِدَ الشيخ مصطفى سنة 1885م والأرجح أنه وُلِدَ في (أبي جرج)، وهو الابن الرابع من أنجال المرحوم حسن باشا عبد الرازق، وقضى طفولته وشطرًا من صباه بالقرية، وحفظ الصبي مصطفى عبد الرازق القرآن الكريم وسنه بين العاشرة والحادية عشرة، ودرس بعض المواد الأخرى ثم رحل إلى القاهرة، وهدفه الانتساب للأزهر، شأنه في ذلك شأن كل أقاربه من أبناء الصعيد، الذين كان أبناؤهم يفضلون الأزهر على غيره من المدارس الحكومية الكثيرة، والتي خصصت لها الحكومة المكافآت السخية تشجيعًا لهم على الانتساب إليها.
وتحقق الهدف ودخل مصطفى عبد الرازق الأزهر، ودرس على يد كبار علمائه، وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده الذي أحبه حبًا جمًّا، بدليل أنه أَلَّفَ كتابًا يتحدث فيه عن الجهود التي يبذلها في سبيل إصلاح الأزهر، وإعادته إلى ما كان عليه في حياة العيني، والعسقلاني، والسخاوي، والمقريزي، وابن خلدون وغيرهم، والذي كان الأزهر يعدُّ في حياتهم ملتقى لأئمة العلوم والفنون المتعددة من طب وفلك وهندسة، بجانب العلوم الدينية واللغوية.
ولقد واصل التلميذ النابغة دراسته في جد واجتهاد، وظهرت بواكير نبوغه، وكان والده يتدارس معه العلوم أثناء الإجازات الدراسية، وكتب الآداب ودواوين من الشعر، فنمت موهبته وأينعت ثقافاته، وأحب الصحافة، فأنشأ مع إخوته وأقاربه صحيفةً عائليةً، ثم أنشأ (جمعية غرس الفضائل) التي كونها من شباب أسرته، وكانوا يتناوبون فيها الخطابة في مساء الجمعة من كل أسبوع، وكان هو أمين سر الجمعية، واستمرت هذه الجمعية من عام 1900 إلى سنة 1905م ثم ظهرت الصحف العامة فنشرت له المقالات الأدبية والقصائد، ثم انصرف عن الشعر إلى الدراسات الأدبية، وكان الشيخ الإمام محمد عبده يباشر وقتها الدعوة الاجتماعية، ويقود الحركة الإصلاحية، فلقي استجابة عامة من جمهرة المثقفين، وواسعي الثقافة من الأزهريين، وإن كان قد لقي نقدًا شديدًا من المتزمتين من العلماء، وكان بين الإمام محمد عبده وبين حسن باشا والد الشيخ مصطفى مودة وصداقة وثيقة انعكس أثرها عليه، وتأثر الطالب الشاب بالإمام تأثرًا كبيرًا، ووجهه الإمام توجيهًا رشيدًا، ومدحه الشاب بقصائد عديدةٍ مما يدل على موهبته المبكرة، ولما عاد الإمام محمد عبده من رحلته في أوروبا حيَّاه الطالب الشاب مصطفى بقصيدة قال فيها:
أقبل عليك تحية وسلام يا ساهرًا والمسلمون نيام
إن يقدروا في الغرب قدرك حقه فلمصر أولى منهم والشام
فيك الرجاء لأمة لعبت ما يلهى الصغار، وجدت الأيام
وقد تخصص الإمام مصطفى عبد الرازق في الفلسفة، ومع هذا فهو صاحب موهبةٍ أدبيةٍ ممتازةٍ، فهو أديبٌ وشاعرٌ، وناقدٌ أدبيٌّ يمتاز بالفكاهة اللاذعة والسخرية المرة، ويبدو ذلك في مقالاته في الصحف.
كما أن الله منحه سلامة الفطرة، فكان من أسلم الناس نفسًا، ومنحه سداد العقيدة، وكان من أنفذ الناس بصيرة في الدين، ومن أشدِّهم استمساكًا بأصوله، وكان من أجمع الناس لعلوم الشرق والغرب.

توليه مشيخة الأزهر :

بعد وفاة عاطر الذكر الإمام الشيخ المراغي سنة 1945 م اعتلى أريكة المشيخة الشيخ مصطفى عبد الرازق، ولم يكن اعتلاؤه لهذا المنصب بالأمر الهين، فلقد قاوم كبار العلماء بالأزهر تعيين الإمام الشيخ مصطفى عبد الرازق، لأن شيخ الأزهر ينبغي أن يكون من جماعة كبار العلماء، ولا يُعيَّنُ بهيئة كبار العلماء إلا من تولى وظائف معينة في القضاء الشرعي، أو درَّسَ بالأزهر مدة معينة، ولم يكن الشيخ كذلك، فلم يعترف كبار العلماء بتدريسه بالجامعة المصرية، فحلَّ أولياءُ الأمر هذه المشكلة بإصدار قانونٍ جديدٍ بأن يكون التدريس بالجامعة المصرية مساويًا للتدريس في الكليات الأزهرية، في الترشيح لمشيخة الأزهر، فأذعن معظم علماء الأزهر إلا قليلا منهم، ليتولى مشيخة الأزهر سنة 1945م.
وقد ذهب قلة من الحاقدين والحاسدين يثيرون ضده الأحزاب، وقد حدث عقب ولايته لمشيخة الأزهر أن نشرت جريدة (لي موند) الفرنسية حديثا نسبته إليه، زعمت فيه أنه قال “إن فرنسا أحرزت مكانًا ممتازًا في نشر الثقافة بين المسلمين، وأرجو ألا تتخلى عن خطتها لتحتفظ بحب العالم الإسلامي لها”، ويقول شقيقه الشيخ علي عبد الرازق مدافعًا عنه وردَّا على ما كتبته الصحف في حبه لفرنسا “إن العلم لا وطن له، وإننا نتلقى عن الغرب معظم ما فاتنا من مدنية ومن حضارة وعلوم ، وينبغي أن نفرق بين المعارف وبين الاستعمار، فإننا نأخذ المعارف ونحارب الاستعمار”.

شهادة الثقات في حقه :

ويقول عنه الشيخ محمد عبد اللطيف دراز “عرفته أستاذًا في الجامعة ووزيرًا وشيخًا للأزهر، وخالطته طويلا وخبرته أشد الخبرة في كل ما ينبغي أن يَعرِفَ صديقٌ عن صديقٍ وأخٌ عن أخٍ، فأشهد ما تغير وما تقلب به الدهر”.
يقول عنه الشيخ أبو العيون واصفًا إدارته للأزهر:
“كان يجمعنا إليه، ونضع الاقتراح في مسألةٍ معينةٍ من مسائل الإصلاح، وتداول الرأي، ويدلي هو برأيه كالمستفهم، وفي النهاية يستقيم الأمر على الأساس الذي أرساه في نفسه وسريرته، وأنه لا يقطع برأي دون إجماعٍ منَّا على استحسانه ونفعه، وكان سبيله في الإقناع الرفق واللين والحجة والبرهان”.
آثاره العلمية وتأثيره
كان متعدد المواهب والثقافات، يكتب في الفقه والحديث والتفسير والفلسفة والاجتماع، وكان شاعرًا مبدعًا، وصحفيًا بارزًا، ونرى أنه تأثر بالإمام محمد عبده إلى حدٍّ كبيرٍ، كما تأثر ببعض العلماء المستنيرين، مثل الشيخ بسيوني عسل، أستاذه في الفقه وكان من العلماء العاملين، ومثل الشيخ محمد حسنين البولاقي، والد أحمد حسنين باشا الذي كان رائداً للملك فاروق، ومثل الإمام الشيخ أبي الفضل الجيزاوي وغيرهم كثير، ولكن حب وتأثر الشيخ مصطفى بالإمام محمد عبده تجاوز كل ذلك، فكان يستنسخ ما لم يصل إلى يده من مجلة (العروة الوثقى) التي كان يصدرها بالخارج الأستاذ الإمام مع أستاذه الفيلسوف الإسلامي جمال الدين الأفغاني، وقام بنسخ كتاب الإمام محمد عبده الذي ألفه عن الثورة العرابية. كما حفظ عنه كتاب (رسالة التوحيد) عن ظهر قلب، وظل كذلك حتى ترجمها للغة الفرنسية مع صديقه (ميشيل برنارد). كما قام بجمع تراث جمال الدين الأفغاني، وما لم يستطع إحرازه مطبوعًا نقله بخط يده، وهذا كله متولدٌ ونابعٌ من حبه للإمام محمد عبده، وأستاذه وشيخه جمال الدين الأفغاني.
ولقد حزن الشيخ مصطفى كثيرًا لموت معلمه وقدوته ونبراسه الإمام محمد عبده فرثاه رثاء مؤثرًا حزينًا، بأكثر من قصيدة وأكثر من مقال وظلت ذكراه ملازمة له طيلة حياته، يرددها في محاضراته ومؤلفاته وندواته، واتفق هو ومجموعة من زملائه على مواصلة رسالته في الإصلاح كما كونوا (الجمعية الأزهرية) وانتخب الشيخ مصطفى رئيسًا لها، ومارست نشاطها بجد وإتقان، ونشير إلى أنه حصل على شهادة العالمية من الدرجة الأولى سنة 1908م، ولم ينل هذه الدرجة إلا واحد أو اثنان من المتقدمين للامتحان معه، وكان عددهم كبيرًا، وبعد شهرين من نجاحه انتدب للتدريس بمدرسة القضاء الشرعي، في ذاك الوقت كان الأزهر يموج بالثورة مطالبًا بإصلاح مناهجه، وتكونت (جمعية تضامن العلماء) وفي مقدمة أعضائها الشيخ مصطفى، وفي سنة 1909م سافر إلى فرنسا لدراسة اللغة الفرنسية والفلسفة في جامعة السربون، وحضر دروس (دور كهايم) في علم الاجتماع، كما درس الأدب وتاريخ الفلسفة والأدب الفرنسي، ثم انتدب ليتولى تدريس اللغة العربية في كلية (ليون) وأعدَّ رسالة الدكتوراة عن الإمام الشافعي باعتباره أكبر المشرعين في الفقه الإسلامي، وتعاون مع المسيو (برنارد مشيل) في ترجمة كتاب العقيدة الإسلامية إلى اللغة الفرنسية.
وقامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م فعاد مع كثير من زملائه إلى مصر، وفي سنة 1915 عُيِّنَ موظفًا في المجلس الأعلى للأزهر، بأمرٍ من السلطان حسين كامل. كما ترجم كتاب (طيف خيل ملكي) للأميرة قدرية بنت السلطان حسين كامل إلى العربية، وأثناء عمله بالمجلس الأعلى للأزهر استطاع توطيد صلته بالعلماء وكسب مودتهم وإعجابهم، وفتح منزله أمام العلماء والمفكرين فأصبح بيته منتدى يؤمه رجال الفكر والثقافة وعلماء الدين، يتباحثون في شتى العلوم، ولكن حياته لم تخل من بعض المكاره فقدم استقالته من رئاسة المجلس الأعلى للأزهر، وفي سنة 1916م أنتخب عضوًا في (الجمعية الخيرية الإسلامية)، ثم وكيلا لها سنة 1920م، ثم رئيسًا لها سنة 1946م حتى وفاته، كما أنضم إلى حزب (الأحرار الدستوريين)، وفي نوفمبر سنة 1927م، نقل إلى الجامعة أستاذًا، فبرزت مواهبه لغزارة علمه وسعة ثقافته، واختير أستاذًا للفلسفة دون منازعٍ بجامعة القاهرة سنة 1935م، ونال رتبة الباكوية سنة 1937م، ثم وزيرًا للأوقاف سنة 1938م حتى 1942م، وأثناء عمله وزيرًا عُيِّنَ عضوًا بالمجمع اللغوي سنة 1940م، وفي سنة 1941م نال رتبة الباشوية، وفي سنة 1944عين وزيرًا للأوقاف حتى تم تعيينه شيخا للأزهر سنة 1945م، ولقد شغل منصب وزير في سبع وزارات، وكان دخوله الوزارة حدثًا غريبًا، لأنه يعتبر أول شيخ أزهري تقلد هذا المنصب، ومن المدهش واللافت للنظر أنه ظل متمسكا بارتدائه الزي الأزهري حتى لقي ربه.
ولقد كان للإمام الشيخ مصطفى عبد الرازق آراء فلسفية قيمة، قال عنه الإمام الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر في كتابه (الحمد لله في حياتي) قال: “إن الشيخ مصطفى عبد الرازق عالم فيلسوف، حيي حليم، كريم بماله ووقته لطلبة العلم ولغيرهم، خرج جيلا من النابهين في الجامعة، وأسهم في الحركة العلمية بجهود عظيمة، وألف وحاضر وكتب المقالات، ووجه تلاميذه إلى التحقيق والتأليف والترجمة، وفتح مكتبته الفنية بشتى الكتب ونوادرها لكل طالب علم مجد”، ومن آراء الشيخ مصطفى القيمة …” إن منطق المسلمين هو أصول الفقه” وهذا الرأي إنما هو إلهام من توفيق الله تعالى، لقد وفق فيه كل التوفيق، واستفاض فيه أيما إفاضة، ومن آثار الشيخ مصطفى عبد الرازق العلمية، ما كتبه عن الجدل، والمماراة في علم الكلام “جاء الإسلام يقرر أن الدين الحق واحد، هو وحي الله إلى جميع أنبيائه، وهو عن الأصول التي لا تتبدل بالنسخ، ولا يختلف فيها الرسل ، وهو هدى أبدا أما الشرائع العملية فهي متفاوتة بين الأنبياء، وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هديا … وكان على القرآن أن يجادل مخالفيه، ردَّا للشبهات التي آثارها أهل الأديان والملل والنحل حول الدين، هذا الجدل في العقائد عرض له القرآن للحاجة، وعلى مقدارها، من غير أن يشجع المسلمين على المضي فيه، بل هو جعل التنفير منه أولاً”.
وأما النتيجة التي ينتهي إليها تفكير الشيخ مصطفى هي نتيجة ينتهي إليها كل مفكر، يتحرى الصواب والحق، فهى منطق المسلمين “أصول الفقه”، والاستفاضة في الجدل الكلامي غير محمودة.

مؤلفاته وتصانيفه :

كان الإمام الشيخ مصطفى عبد الرازق متعدد المواهب متنوع الثقافة والعلم، يكتب في الفقه وأصوله والحديث والتفسير وعلومه، والفلسفة والاجتماع والأدب، وكان شاعرًا مبدعًا وصحفيًا بارزًا وقد تقلد الإمام الشيخ مصطفى مناصب كثيرة في التدريس والقضاء، ورئاسته لجمعيات خيرية إسلامية، وإلقاء المحاضرات في المناسبات المختلفة، كما مُنِحَ ألقابًا عدة من باكاوية وباشاوية، فهو باشا ابن باشا، ومن أصلٍ عريقٍ وبيئةٍ طيبةٍ كلها أهل علمٍ وعلماء، وأهل نضالٍ أيضا، كما تقلد أيضًا مشيخة الأزهر.
وهذا كله جديرٌ بأن يُشغِلَ الرجلَ عن التأليف والتثقيف والكتابة، والشعر والأدب، ومع كل هذه الأعباء الملقاة على عاتقه، فقد ترجم العديد من الكتب من الفرنسية إلى العربية، وبالعكس، كما أَلَّفَ العديد من الكتب والرسائل، نشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
1ـ ترجمة فرنسية لرسالة التوحيد للشيخ محمد عبده.
2ـ رسائل موجزة بالفرنسية عن الأثري الكبير بهجت بك.
3ـ رسائل بالفرنسية عن معنى الإسلام ومعنى الدين في الإسلام.
4ـ التمهيد لتاريخ الفلسفة.
5ـ فيلسوف العرب والمعلم الثاني.
6ـ الدين والوحي في الإسلام.
7ـ الإمام الشافعي.
8ـ الإمام الشيخ محمد عبده.
9ـ مذكرات مسافر ومذكرات مقيم.
10ـ بحث في دراسة حياة لبهاء زهير وشعره.
وله أيضا مذكراتٌ ومجموعة مقالاتٍ وأحاديث لم تنشر حتى الآن .. من أهمها:
1ـ مؤلف كبير في المنطق
2ـ مؤلف كبير في التصوف
3ـ فصول في الأدب
4ـ مذكراته اليومية

وفاته :

هذه نبذه موجزة عن حياة الإمام الشيخ مصطفى عبد الرازق، الذي كانت حياته دليلا ناطقا، وحجة ظاهرة على أنه كان من بيئة عالية القدر، رفيعة الشأن، ضاربة الجذور في أعماق التاريخ، وأنه كان من أكثر الذين تقلدوا مشيخة الأزهر فضلاً، وأوسعهم علماً، وأكثرهم جرأة على إحقاق الحق، وإبطال الباطل، على رغم أنف الحاقدين والكائدين من أعداء التطور، والتحضر في الدين والدنيا. كان الشيخ مصطفى عبد الرازق سمح الطبع والنفس والقلب، لم يخرج عن هذه الخصال طيلة حياته، وكان وفيَّا للذين عرفهم، وحسنت صلته بهم، ويقول من خالطوه إن هذه الصفات وتلك الأخلاق التي التزم بها، ووفاءه لأصدقائه ومعارفه، قد جرت عليه ما يضيق به ويؤلمه في أمور كثيرة، لكنه لم يحفل بعواقب الوفاء.
يقول الأستاذ فريد وجدي في رثائه، واصفا أخلاقه: “لم أر فيمن قابلت من القادة والزعماء، أكرم خلقًا في غير استكانةٍ، ولا أهدأ نفسًا في غير وهنٍ، ولا أكثر بشاشةً، في غير رخوةٍ، من الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكل ذلك إلى حزمٍ لا يعتوره لوث، واحتياط لا يشوبه تنطع، وأناةٍ لا يفسدها فتور، وإدمانٍ على العمل ينسى معه نفسه، وهي صفات كبار القادة، وعلية المصلحين، ممن خلقوا لمعالجة الشئون المعقدة، وحسم المنازعات الشائكة ولتوفيق المطالب المتنافرة.
عندما تقلد منصب شيخ الأزهر، لم يمض عليه حولٌ كاملٌ حتى تم اختياره أميرًا للحج في أكتوبر سنة 1946م، ولبث في رحلته 40 يوما ثم عاد ليتفرغ لاستئناف وجوه الإصلاح في الأزهر.
وقد استطاع بسماحته وسعة صدره أن يجذب إليه بعض علماء الأزهر، لكن الأمر لم يطل به فقد ذهب في 15 فبراير سنة 1947م إلى مكتبه بالأزهر فرأس جلسة المجلس الأعلى للأزهر ثم عاد إلى بيته فتناول طعامه، ونام قليلا ثم استيقظ فتوضَّأ وصلى بإحساس المؤمن الصالح، ثم شعر بإعياءٍ شديدٍ، فتم استدعاء الطبيب الذي جاء بعد فوات الأوان، فقد نفذ قضاء الله فيه، فلا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولكل أجل كتاب … رحمه الله وغفر له وجمع بينه وبين من يحبهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في جنة النعيم وحسن أولئك رفيقًا.

Similar Posts