ما لايدرك كله لا يترك جله

 

تتضمن هذه القاعدة الجليلة مجموعةً من الفوائد العظيمة، والتى تصب فى إطار مبدأ التيسير والتخفيف الذى يعد من دعائم الشريعة الغراء، وتتضح هذه الفوائد على النحو التالى:

– أن قاعدة “ما لا يدرك كله لا يترك جله” مفادها: أنه إذا تعذر حصول الشيء كاملا، وأمكن المكلف فعل بعضه، وجب عليه فعل المقدور عليه؛ لأن إيجاد الشيء في بعض أفراده-مع الإمكان- أولى من إعدامه كلية.

– تبرز أهمية القاعدة من جهة اتساع مجال إعمالها؛ إذ يندرج تحتها مسائل كثيرة من أبواب شتى؛ لكونها تتعلق بالمأمورات الشرعية التي هي تمثل غالب التكاليف الشرعية.
– أقدم من صرح بذكر القاعدة -فيما وقفت عليه- هو العلامة الملا علي القاري (1014هـ) في كتابه “مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح”. وعلى الرغم من كثرة ترددها على ألسنة كثير من المتعلمين في هذا الزمن، إلا أنني لم أقف عليها في شيء من كتب القواعد الفقهية، ولا الفقه وأصوله، لكن جاء في كلام بعض العلماء ما يفيد معناها، كقول أبي الطيب الصعلوكي (ت404هـ) “إذا كان رِضا الخلق معسور لايدرك، كان ميسورُه لا يترك”، وقول الماوردي (ت450هـ) “العجز عن بعض الواجبات لا يسقط ما بقي منها”، وقول الجويني (ت478هـ) “المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز”، ثم شاعت واشتهرت بعدهم بلفظ “الميسور لا يسقط بالمعسور”
– كثرة الأدلة العامة والخاصة على ثبوت القاعدة، وصحة معناها وصلاحها للتفريع عليها.
– إذا كان الظن لا يعمل به إلا عند تعذر اليقين، فإن هذه القاعدة أيضاً لا يعمل بمقتضاها إلا عند تعذر وجود الشيء كاملاً، وهذا التدرج غالباً إنما يكون لما يلحق المكلف من المشقة التي أضعفت قدرته، وقد ضبط العلماء المشقة غير المعتادة في كل عبادة بأدنى المشقة المعتبرة فيها.
– قدرة المكلف على بعض العبادة وعجزها عن باقيها أقسامه ستة:
‌أ- أن يكون العجز ببعض البدن، فيجب أن يفعل ما قدر عليه، ويسقط ما عجز عنه.
‌ب- أن يكون المقدور عليه غير مقصود بالعبادة، فلا يجب عليه فعله.
‌ج- أن يكون المقدور عليه مقصوداً بالعبادة ويكون حقاً مالياً، فإن كان حقاً لله تعالى كالزكاة فإنها تثبت في الذمة بعد التمكن من أدائها، وما وجب بسبب الكفارة، أو فيه معنى ضمان المتلف كجزاء الصيد، فإن عجز عنه فبقاؤه في ذمته خلاف على قولين.
وهكذا دم النسك ينتقل إلى بدله الصيام، فإن عجز عنه فبقاؤه في ذمته خلاف.
وأما حقوق الآدميين فإن عجز عنها بتفريط منه طولب بها في الآخر، وإن كان بغير تفريط ففي إشغال ذمته نظر.
‌د- ما وجب تبعاً لغيره فإن كان وجوبه احتياطا للعبادة ففي الإلزام به خلاف، وإن كان وجوبه على وجه التكميل واللحوق فلا يلزم، كمن فاته الوقوف بعرفة لا يلزمه ما بعده من أعمال الحج، بل يتحلل بعمرة على القول الصحيح.
‌ه- ما كان جزء عبادة وليس مشروعاً في نفسه بانفراده، أو هو غير مأمور به، لا يجب بلا خلاف.
‌و- ما كان جزء عبادة وهو عبادة مشروعة في نفسه: منه ما يجب، ومنه ما لا يجب، ومنه ما هو مختلف فيه.
– لهذه القاعدة صلة بقاعدة “الميسور لا يسقط بالمعسور” إذ يتمثل فيها جانب التيسير والتخفيف، فإذا لم يقدر المكلف على الواجب بالكلية سقط عنه وجوبه، وإن قدر على بعضه وعجز عن بعضه الآخر لزمه ما يقدر عليه منه. وهي وإن كانت أشهر وأسبق في الظهور، إلا أن قاعدة “ما لا يدرك كله لا يترك جله” أوسع في مجال التفريع؛ إذ تشمل ما هو لازم وما ليس بلازم من ندب وإباحة، بل تتجاوزه إلى ما يجري مجرى الأخبار.
– هذه القاعدة لها صلة بقواعد فقهية أخرى: منها ما يتفق معها دلالة ومعنى، ومنها ما يقاربها في ذلك، أو يشاركها في بعض ما تدل عليه.
– هذه القاعدة لها تطبيقات كثيرة؛ نظراً لارتباطها بالمأمورات الشرعية؛ إذ هي تمثل شطر الأحكام التكليفية، وقد روعي في امتثالها قدرة المكلف، والتدرج بحسب استطاعته، بالانتقال من الحال التي يعجز عنها إلى الحال التي يطيقها.
– وُجدت فروع فقهية لم تندرج تحت القاعدة، ذلك أنه لما تعذر وجود الحكم في بعض الأفراد امتنع إثباته في البقية، فكان إسقاطه في بعضها إسقاطاً له في جميعها. وهذا لا يقلل من أهمية القاعدة ولا يضيق من اتساعها؛ إن لكل قاعدة ما يشذ عنها.
– أثير حول إعمال هذه القاعدة شبهات قد تخل بإعمالها أو تبطلها، وبالنظر في هذه الشبهات أمكن دفعها والجواب عنها، فلا تؤثر في صحة القاعدة وثبوتها.

د. عبد اللطيف بن سعود الصرامى

Similar Posts