نسبه ونشأته وبيئته وتوليته المشيخة
الشيخ عبدالمجيد سليم إمام جليل، وفقيه كبير، ومشرع عظيم، وقد أفاض الكُتَّاب والمؤرِّخون في الحديث عن هذا الإمام وذِكر مَآثره ومَفاخره.
وُلد في 13 أكتوبر 1882م في قريةٍ من قُرى محافظة المنوفيَّة تسمَّى ميت سهالة، وهي الآن من أحياء “الشهداء”، وُلد شيخنا في بيت من بيوت المجد والسيادة، وعاش طفولته وصباه على أرض هذه القرية، وفيها حفظ القُرآن الكريم، والتحق بالأزهر، وكان متوقِّد الذكاء، شغوفًا بفنون العلوم، متطلعًا إلى استيعاب جميع المعاني، فلم يكتفِ بدراسة العلوم المعروفة بالأزهر؛ فدرس إلى جانبها الفلسفة، حتى اشتهر بين زملائه من الطلبة وغيرهم باسم “ابن سينا” الفيلسوف العربي المشهور.
من شدَّة ذكائه كان يلتهمُ المعارف والعلوم التهامًا، ويختار أعلام الأساتذة من ذوي الخلُق الكريم، والعلم الغزير، والأفق الواسع؛ ليرشفَ من علومهم وينهل منها، ثم تولى إلى القاهرة ودخل الأزهر فدرس علومه على مشاهير شيوخه، وفي الوقت نفسه درس العلوم المعروفة في عصره، ومنها علوم الفلسفة، ومن هذا أنَّ دراسته لهذه العلوم لم تكن دراسةَ أستاذٍ فحسب، وإنما كانت دراسة مَن بلغوا فيها الغاية، ولقد حضر دروس الإمام “محمد عبده” في الرواق العباسي، وظلَّ مواظبًا على حضورها خمس سنوات، تلقَّى فيهما عنه “أسرار البلاغة”، و”دلائل الإعجاز”، كما تلقَّى عليه دروسًا في التفسير، ثم تلقَّى دروس المنطق والفلسفة، وتأثَّر بالعلامة حسن الطويل، وعُرف عنه أساليب عديدة في فنون الجدل والقياس لم تكن معروفة عن أقرانه من الطلاب، وكان الشيخ يرعاه ويوجِّهه ويُرشده، وقد تنبَّأ له بمشيخة الأزهر، ثم درس الفقه على فقيه عصره العالم الشيخ أحمد أبو خطوة، وكان – رحمه الله – بحرًا زاخرًا في معرفة التفصيلات الفقهيَّة والفتاوى الدينيَّة، واستنباط الأدلَّة الشرعيَّة من النصوص، ولقد تأثَّر كليًّا بأستاذيه العالمين الجليلين: الإمام محمد عبده والإمام الشيخ أبو خطوة، حتى قال مرَّةً: إنَّ الشيخ أبو خطوة يفهم شرح “فتح القدير على الهداية” أكثر ممَّا يفهمه صاحبه نفسه…
ونرى أثر كلٍّ من الإمامين قويًّا واضحًا في جميع فتاوى الشيخ عبدالمجيد سليم، لكن ليس مقلدًا لهما، وإنما سيرًا على منهجهما، مع التمرُّد المطلق من التقيُّد المطلق برأي معيَّن أو مذهب خاص. ولمَّا أدرك الرجل أنَّه وعى علوم الأزهر حفظًا وفهمًا ودراسةً تقدَّم لنيل درجة العالميَّة “الدكتوراه” سنة 1908م؛ فحصل عليها من الدرجة الأولى، وهي الدرجة التي لم يكن يمنحها شيوخ الأزهر إلا لمن جمع بين العلم والفضل معًا، وقد فتحت هذه الشهادة أمامَه أبوابَ الوظائف على مصراعيها؛ فشغل مناصب التدريس في المعاهد الدينيَّة، مع التدريس لطلبة القضاء الشرعي لمادتي الفقه وأصوله، كما ولي القضاء ثم الإفتاء، وقد استفاد من التدريس غزارةَ العلم، ومُداومة البحث والاطِّلاع، وبراعة الأداء، كما استفاد من القضاء دقَّةَ البحث وتحرِّي الحق، والاعتماد على الأدلَّة العقلية والعلمية، واستفاد من الإفتاء عمق الدراسة وتتبُّع الآراء الفقهيَّة في شتَّى المذاهب أو الأخذ منها بما يتَّفق وروح الشريعة الغرَّاء، وفاز بعضويَّة جماعة كبار العلماء، ثم أصبح وكيلاً لها، ثم عهد إليه بالإشراف على الدراسات العُليا بالأزهر فنظَّمها ونسقها، ولما ولي شؤون الإفتاء ظلَّ يُباشر شؤون هذه المهمَّة الشاقَّة زهاء عشرين عامًا، وهذا كلُّه قبل توليه أمورَ المشيخة.
تولِّيه منصب مشيخة الأزهر
وبعد أنْ لبَّى فضيلة الشيخ محمد مأمون الشناوي نداءَ ربِّه أصبح منصب المشيخة خاليًا اتَّجهت الأنظار إلى الشيخ عبدالمجيد سليم، وصدر القرار بتعيينه شيخًا للأزهر في ست وعشرين من ذي الحجَّة عام 1369هـ أكتوبر عام 1950م، وكان الملك فاروق وحاشيته في هذا الوقت يتحكَّمون في الوزارات والوزراء وكبار رجال الدولة تبعًا لأهوائهم وشهواتهم، وإرضاءً للإنجليز المستعمرين لمصر، ولما حاولت الحكومة انقاص ميزانية الأزهر، وكان هذا أوَّل صدام مع الحكومة غضب الإمام، وقال قولته المشهورة: “تقتير هنا وإسراف هناك”؛ أي: إنقاص ميزانية الأزهر وإسراف وتبذير في ميزانية الجامعات الأخرى، وعمد أعداء الأزهر وأعداء شيخه إلى إيغار صدر الملك، وتأوَّلوا الكلام إلى أغراضٍ مشينة للملك. ولهذه الحادثة قصة؛ حين عارض الشيخ عبدالمجيد رغبات الملك تربَّص رجال الحكومة للشيخ، وضاقوا بآرائه وفتاويه ذرعًا، وذهب الملك فاروق إلى جزيرة “كابري” بإيطاليا؛ حيث ألوان اللهو والمجون والخلاعة، وأعلن الإمام نقده الجريء لهذا، وصاح صيحته المشهورة: “تقتير هنا وتبذير هناك”، طاروا بهذا النقد وأبلغوه للملك وأغروه بعزله؛ فعزله، وفي هذا الجو الخانق ترك الشيخ منصبه في 4/9/1951م، ثم ولي منصب المشيخة مرَّة ثانية في 10/2/1952م بعد أنْ تأكَّد الملك من حُسن نيته، لكنَّه استقال ثانية في 17/9/1952م في عهد ثورة يوليو، وحاولت الحكومة برئاسة فتحي رضوان المشرف على شؤون الأزهر وقتها – في عهد الثورة – أنْ يُقنعه بسحب استقالته فرفض رفضًا باتًّا، ولم يُبالِ الشيخ بما تعرَّضَ له في سبيل الجهر بالحق، ولم يُطأطئ رأسه، وراح يتردَّد بين منزله وبين المسجد كما كان يحبُّ طول حياته.
آثاره العلمية وتأثره
كان الإمام الشيخ عبدالمجيد سليم ذا موهبة تشريعيَّة قائمة على العلم العميق، وعلى الإلمام بآراء كبار الأئمَّة والفقهاء ورجال القانون، كما تألَّفت لجنة تشريعية لإصلاح قوانين الأحوال الشخصية برئاسة الإمام “المراغي” وعضويَّة الشيخ عبدالمجيد سليم وشيوخ المذاهب، وأساتذة الشريعة والحقوق، ورئيس المحكمة العُليا، ووكلاء وزارة العدل، هذه اللجنة أقرَّت آراء الشيخ عبدالمجيد سليم، وتوجيهاته الرشيدة، وكلُّ هذا سُجِّلَ في سجلات المحاكم.
وفي هذا يقول رئيس محكمة الاستئناف محمد محمود في رثاء الإمام: “لقد كان المرحوم الشيخ عبدالمجيد سليم في هذه اللجنة هو القطب اللامع، والحركة الدائمة، وكان يأخذ الكلمة فيتولى شرح الموضوعات والمسائل الواحدة بعد الأخرى، مستعرضًا شتَّى الآراء، ومختلف الصور في كل مذهب، مقررًا حكم الشرع، ذاكرًا رأي الأئمَّة والمجتهدين والفقهاء المؤلِّفين، مسايرًا روح العصر، وهو في هذا كلِّه بحر متدفِّق، متحريًا أسس الشريعة الغرَّاء وأهدافها، مع مُراعاة أحوال الناس، وظروف العصر، مؤيِّدًا رأيه بالأدلَّة العقليَّة، والبراهين المنطقيَّة؛ فلا يدع مجالاً لأحدٍ أنْ يُعقِّب بشيء.
ومن آثاره الإصلاحيَّة الكثير، نوجز بعضها، ومَن أراد المزيد فلينظرها في مكانها؛ فلقد تحدَّث في مؤتمر صحفي بعد تولِّيه المشيخة فقال: “إنَّ مهمَّة الأزهر تشملُ تعليم أبناء الأمَّة الإسلامية الدِّين الإسلامي ولغة القرآن الكريم تعليمًا قويًّا مثمرًا؛ فيجب على القائمين بشؤون الأزهر إصلاحُ قوانين الأزهر أولاً، وأنْ يعملوا جاهدين على تحقيق آمال الأمة فيه”، وهذه بعض وسائل الإصلاح نوجزها فيما يلي:
1- مراجعة الكتب الدراسية، وإبقاء الصالح، وتوجيه الطلاب إلى العلم من أيسر الطرق عليهم.
2- تشجيع حركة التأليف والتجديد، عن طريق الجوائز المشجِّعة، وعلى العلماء وضع البحوث، متمشية مع روح العصر.
3- إعداد جيلٍ قوي من أبناء الأزهر يستطيع أنْ يحمل الرسالة، فإنَّ الأمَّة تعتمد على الأزهر لتخريج هؤلاء العلماء في كلِّ التخصُّصات.
4- تشجيع حركة البعوث العلمية التي يرسلها الأزهر إلى أوروبا للدراسة في الجامعات العلمية؛ للتزوُّد من شتَّى الثقافات.
5- تنظيم الجامعة الأزهرية تنظيمًا يتَّفق ورسالتها المهمَّة، وذلك بإنشاء مكتبة كبرى، ودار طباعة كبيرة، والآن فإنَّ الأزهر يسير على هذه الأسس، وتوجد أهداف كثيرة مَنوطة بالأزهر داخليًّا ودوليًّا، ونكتفي بما ذُكِرَ لضيق المقام.
وتتجلَّى آثار الشيخ عبدالمجيد سليم العلمية فيما كان يصدر من فتاوى تدلُّ على سعة علمه، واتِّساع أفُقِه، ويظهرُ ذلك واضحًا في ما كان ينشره من مقالات وأبحاث وتشريعات في الصحف، إضافة إلى أحاديثه المتوالية في الإذاعة، ولقد وجَّه كلمةً إلى طلبة الأزهر بمناسبة العام الهجري عن طريق الإذاعة، هذه الكلمة ينبغي أنْ تكون دستورًا لهم يرعاه الجميع في الحاضر والمستقبل، نوجزُ بعضًا منها: “نصيحتي إليكم أنْ تعلموا أنَّكم جميعًا مجنَّدون في سبيل الله، فأقبلوا على دراستكم، وتجمَّلوا بالفضيلة بينكم وبين الناس؛ لتحقيق آمال الأمَّة فيكم، وإعلاء كلمة الدِّين والعلم بكم”.
وكان هدفه أنَّه إذا شعر كلُّ أزهري أنَّه جندي مكلَّف برسالة عُظمى، أدرك قيمة المسؤوليَّة، وواجب الجندي في ميدان الجهاد هذه الرسالة ترتكزُ على عمودين أساسيين:
1- سعة العلم.
2- حُسن الخلق، ولا علمَ بدون خلق؛ لقد كان الشيخ عبدالمجيد سليم لسانَ جماعة التقريب، وقلمها البليغ، ورائدها الممتاز، قال عنه فضيلة الإمام الشيخ شلتوت: كنت أودُّ لو أستطيع أنْ أبرز صورة كصورة الرجل السمح الزكي القلب العف اللسان، رجل العلم، المؤمن القوي، الضَّليع في مختلف علوم الإسلام ومذاهب الفقهاء.
وهذا المقال مسجل عن قصة التقريب من ص 8-14، ولقد ضمن ثلاثة أئمَّة تولَّوا مشيخة الأزهر هم:
1- الإمام المراغي.
2- الإمام مصطفى عبدالرازق.
3- الإمام الشيخ الشيخ عبدالمجيد سليم.
والثلاثة من خيار شيوخ الأزهر، خُلُقًا وعلمًا وعملاً، ولكلٍّ منهم دوره العظيم في تطوير الأزهر، والمقام لا يتسنَّى لذِكر أحداث هذا التطوُّر، ومَن أراده فلينظُره في كتاب “الشيخ المراغي بأقلام الكُتَّاب”.
مؤلفاته ومصنفاته
ولقد كتب عن الشيخ عبدالمجيد سليم كبارُ العلماء والأدباء والمفكِّرين، يثنون على علمه وجرأته، ولم يترك الشيخ عبدالمجيد سليم ثروة علمية في مؤلفات مكتوبة، بل ودع علمه صدور طلابه، كما فعل بعض الأئمَّة السابقين، فكان علمه من السعة بمكانٍ من مقالات ومحاضرات والفتاوى التي جاوزت الخمس عشرة ألفًا.
ومن أعماله التي لا تُنسى محاولةُ التقريب بين المذاهب، فقد كان على قناعة بأنَّ تعاون المسلمين وتضامُنهم هو السبيل إلى قهر أعدائهم، ونشير إلى بعض أسماء المقالات التي ذكرها ونشرتها الصحف:
1- “أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم”، في هذا المقال صوَّر عيبًا متفشيًا في الدول الإسلاميَّة، وهو ضعف ثقتهم بأنفسهم، ومغالاتهم في تقديس الغربيين، والمقال طويل.
2- “خواطر حول التعصُّب ومجاراة الفكر الغربي”، والبحث يُعالج مشكلة كبيرة وخطيرة، وأخطاء الباحثين في هذه المشكلة.
3- “القطعيات والظنيات”، وضَّح فيه معالم الاجتهاد في الدراسات الدينيَّة، وهذا البحث يدلُّ دلالةً قاطعة على طول باع الرجل في علوم الفقه وأصوله، والمنطق، وأهمية الاجتهاد، والاعتماد على الدليل والحجة والبرهان.
4- “جماعة التقريب” بيَّن فيه أنَّ الإسلام هو دِين الوحدة، ويصبحُ المسلمون في ظلِّها كالبنيان المرصوص، وحريَّة الفكر في الإسلام مكفولة ما دامت لا تعارضُ أساسًا أو ركنًا من أركان العقيدة، كما أصدرت “جماعة التقريب” مجلة “رسالة الإسلام” ولقد كان الشيخ عبدالمجيد سليم لسان هذه الجماعة كما ذكرنا في ذلك سابقًا، وأهم ما تركه الشيخ الإمام من آثار علميَّة هي فتاوى، وقد ذكر بعض الباحثين أنها تبلغ خمس عشرة ألف فتوى كما ذكر، وهي ثروة فقهيَّة يجبُ نشرها؛ لينتفع بها علماء المسلمين، ولقد فكَّر المسؤولون في نشرها، وعهدوا إلى الشيخ فرج السنهوري للقيام بهذا، وقامت عقبات حالت دون تنفيذ المشروع، ولعلَّ أحد الباحثين من علماء الأزهر يتفرَّغ لكتابة “رسالة دكتوراه في فتاوى الإمام”، كما أنَّ الشيخ نشر كثيرًا من آرائه ودراساته في الصحف والمجلات، بخاصَّة مجلة “رسالة الإسلام”، وهي لسان حال “جماعة التقريب”، ولقد ورد في كتاب “الأزهر في اثني عشر عامًا” أنَّ الأستاذ الإمام كانت له مراسلات علمية عديدة دارت بينه وبين كبار علماء المسلمين في شتَّى أنحاء العالم، كما ورد أنَّ له مؤلفات ما زالت محفوظة.
وفاته
كان الشيخ عبدالمجيد سليم مع تواضُعه الجمِّ يعتزُّ بكرامته اعتزازًا كبيرًا، وكان يجهرُ بكلمة الحق، ولا يُبالي بما يترتَّب على ذلك من آثار، وقبل وفاته كانت الخلافات الحزبية قد اتَّسع خطرها، وأصبحت شرًّا وبيلاً في تمزيق الأمَّة المصريَّة شرَّ ممزَّق، هذا إلى جانب ألوان الفساد التي بثَّها الاستعمار وزعماء الطغيان والاستبداد من حاشية الملك ومَن حوله، وتسلَّلت شرور الحزبيَّة إلى الأزهر الشريف؛ فقاوَمَها الإمام مقاومةً عنيفة ولقد لقي إزاء ذلك عنتًا وتعنُّتًا شديدًا، وتعرَّض لحملات مسعورة، شنَّها عليه أعوان القصر وأتباع الأحزاب، لكنَّه صمد أمامها كالطود الشامخ، وأبى أنْ يُهادن أو يَلين، وكثُرت عليه الهموم، فهاجمه المرض، ومع هذا قدَّم استقالته بكلِّ شجاعةٍ في سبيل كلمة الحق، وليعلم الجميع أنَّ شيوخ الأزهر رجالٌ لا يقبَلون المساومة، ولقد حاولت الحكومة إرجاعَه عن هذه الاستقالة لكنَّه أصرَّ على موقفه كما ذكر، حتى وافاه أجلُه في صباح يوم الخميس السابع من شهر أكتوبر سنة 1954م، وشُيِّعَت جنازته في اليوم التالي.